اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (53)

" الكِتَاب " و " الفُرْقان " مفعول ثان ل " آتَيْنَا " .

وهل المراد بالكتاب والفرقان شيء واحد ، وهو التوراة ؟

كأنه قيل : الجامع بين كونه كتاباً مُنَزَّلاً ، وفرقاناً يفرِّق بَيْن الْحَقِّ والْبَاطل ، نحو : رَأَيْتُ الغَيْثَ واللَّيْثَ ، وهو مِنْ باب قوله : [ المتقارب ]

491- إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ *** . . . {[1321]}

أو لأنهم لمَّا اختلف اللفظ ، جاز ذلك ؛ كقوله : [ الوافر ]

492- فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْه *** وَأَلْفى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا{[1322]}

وقوله : [ الطويل ]

493- . . . *** وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ{[1323]}

وقوله عنترة{[1324]} : [ الكامل ]

494- . . . *** أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ{[1325]}

قال النحاس{[1326]} : " هذا إنما يجوز في الشِّعر ، فالأحسن أن يراد بالفُرْقَانِ ما علَّمه الله موسَى من الفَرْقِ بين الحقِّ والباطل " .

وقيل : " الواو زائدة " ، و " الفرقان " نعت للكتاب أو " الكتابُ " التوراةُ ، و " الفرقان " ما فرِّق به بين الكُفْرِ والإيمان ، كالآيات من نحو : العَصَا واليَدِ أو ما فرّق به بين الحلال والحرام من الشرائع .

و " الفُرْقَان " في الأَصل مصدر مثل الغُفْرَان .

وقد تقدّم معناه في { فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } [ البقرة : 50 ] .

وقيل : " الفُرقَانُ " هنا اسم للقرآن ، قالوا : والتقدير : ولقد آتينا موسى الكتاب ، ومحمّداً الفرقان .

قال النحاس{[1327]} : هذا خطأ في الإعراب والمعنى ، أمّا الإعراب فلأن المعطوف على الشيء مثله ، وهذا يخالفه ، وأمّا المعنى فلقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ } [ الأنبياء : 48 ] . وقال قُطْرب وزيد : " الفُرْقَانُ انْفِرَاقُ البَحْرِ له " .

فإن قلت : هذا مذكور في قوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } وأيضاً قوله بعد ذلك : " لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " لا يليق إلاّ بالكتاب ؛ لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى ، فالجواب عن الأولى أنه تعالى لم يبين في قوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام ، وفي هذه الآية بَيّن ذلك بالتنصيص .

وعن الثاني : أن فَرْقَ البحر كان من الدَّلائل فلعلّ المُرَاد : آتينا موسى الكتاب ليستدلُّوا بذلك على وجود الصانع ، وصدق موسى عليه السَّلام ، وذلك هو الهِدَايَةُ ، وأيضاً فالهدى قد يُرَادُ به الفَوْزُ والنَّجَاة ولم يُرَدْ به الدلالة ، فكأنه تعالى بيّن أنه أتاهم الكتاب نعمةً من الدين والفرقان الذي جعل به نجاتهم من الخَصْمِ نعمةً عاجلةً .

وقيل : الفرقان : الفَرَجُ من الكَرْب ؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، { إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] أي : فَرَجاً ومَخْرَجاً وقيل : الحجّة والبَيَان ، قاله ابن بحر .

وقيل : الفُرْقَان الفَرْقُ بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء ، وغرق أولئك ، ونظيره يوم الفُرْقَان ، فقيل يعني به يوم بدر .

فصل في الرد على المعتزلة

استدلت المعتزلة بقوله : " لعلكْم تهتدون " على أن الله أراد الاهتداء من الكُلّ ، وذلك يبطل قول من يقول : أراد الكُفْرَ من الكافر . وأيضاً إذا كان هداهم أنه تعالى لم يخلق الاهتداء ممن يهتدي ، والضلال ممن يضل ، فما الفائدة في إنزال الكتاب والفرقان ، ولقوله : " لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه ، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو كان الاهتداء [ ولا كتاب لحصل ]{[1328]} الاهتداء ، ولو أنزل الكتاب ، ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء ، فيكف يجوز أن يقول : أنزلت [ الكتاب ]{[1329]} لكي تهتدوا ؟ وقد تقدّم مثل [ هذا ]{[1330]} الكلام .


[1321]:- تقدم برقم (128).
[1322]:- البيت لعدي بن زيد ينظر ذيل ديوانه: ص 183، والأشباه والنظائر: 3/213، وجمهرة اللغة: ص 993، والدرر: 6/73، وشرح شواهد المغني: 2/776، ولسان العرب (مين)، والشعر والشعراء: 1/233، ومعاهد التنصيص: 1/310، وبلا نسبة في مغني اللبيب: 1/357، وهمع الهوامع: 2/129، الدر المصون: 1/225، وصوابه: فقددت الأديم لراهشيه انظر الشعر والشعراء: 1/33.
[1323]:- عجز بين للحطيئة وصدره: ألا حبذا هند وأرض بها هند ينظر ديوانه: (39)، شرح المفصل: 1/ 10، أمالي ابن الشجري: 2/36، الدرر: 2/115، شرح القصائد للتبريزي: (321)، روضة الفصاحة: (61)، الهمع: 2/ 88، والدر المصون: 1/225.
[1324]:-عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي: أشهر فرسان العرب في الجاهلية، ومن شعراء الطبقة الأولى من أهل نجد، أمه حبشية اسمها زبيبة سرى إليه السواد منها، وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة وكان مغرما بابنة عمه "عبلة" فقل أن تخلو له قصيدة من ذكرها، اجتمع في شبابه بامرئ القيس الشاعر وشهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا، وقتله الأسد الرهيص أو جبار بن عمرو الطائي في سنة 22 ق هـ. نسب إليه "ديوان شعر" أكثر ما فيه مصنوع و"قصة عنترة" خيالية يعدها الإفرنج من بدائع آداب العرب. ينظر الأعلام: 5/91 (663)، الأغاني: 8/237، وخزانة الأدب للبغدادي: 1/62، الشعر والشعراء: 75.
[1325]:- عجز بيت من معلقة عنترة وصدره: حييت من طلل تقادم عهده ينظر ديوانه: (185)، شرح القصائد للتبريزي: (320)، والشنقيطي: (111)، والدر المصون: 1/ 225.
[1326]:- ينظر إعراب القرآن: 1/175.
[1327]:- ينظر إعراب القرآن: 1/175.
[1328]:- في أ: والكتاب يحصل.
[1329]:- سقط في أ.
[1330]:- في ب: ذلك.