الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (53)

قوله تعالى : " وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان " " إذا " اسم للوقت الماضي و " إذا " اسم للوقت المستقبل و " آتينا " أعطينا وقد تقدم جميع هذا{[759]} والكتاب : التوراة بإجماع من المتأولين ، واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب : المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان . قال النحاس : هذا خطأ في الإعراب والمعنى : أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه ، وأما المعنى فقد قال تعالى " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " قال أبو إسحاق الزجاج : يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيدا ، وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر :

وقَدَّمَتِ{[760]} الأديمَ لِرَاهِشَيْهِ *** وألفى قولَها كَذِباً ومَيْنَا

وقال آخر{[761]} :

ألا حبذا هند وأرض بها هند *** وهند أتى من دونها النأيُ والبعد

فنسق البعد على النأي ، والمين على الكذب ؛ لاختلاف اللفظين تأكيدا . ومنه قول عنترة :

حييت من طلل تقادم عهده *** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

قال النحاس : وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد : فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه . وقال ابن زيد : الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا ، فعبروا وقيل : الفرقان الفرج من الكرب ؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، ومنه قوله تعالى " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " [ الأنفال : 29 ] أي فرجا ومخرجا وقيل : إنه الحجة والبيان قاله ابن بحر . وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان ، والواو قد تزاد في النعوت كقولهم : فلان حسن وطويل وأنشد :

إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهُمَام *** وليثِ الكتيبة في المزدَحَمْ

أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ، ودليل هذا التأويل قوله عز وجل : " ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء{[762]} " [ الأنعام : 154 ] أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك . وقيل : الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء وأغرق أولئك . ونظيره : " يوم الفرقان " فقيل : يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه .

قوله تعالى : " لعلكم تهتدون " لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم{[763]} .


[759]:راجع ص 3261 ص 343
[760]:الرواية المشهورة في البيت: "فقددت الأديم" وهو لعدي بن زيد. والقد: القطع. والأديم: الجلد. والراهشان: عرقان في باطن الذراع.
[761]:هو الحطيئة.
[762]:راجع ج 7 ص 142
[763]:راجع ص 160 من هذا الجزء.