قوله تعالى : { وقاتلوهم } . يعني المشركين .
قوله تعالى : { حتى لا تكون فتنة } . أي شرك ، يعني قاتلوهم حتى يسلموا ، فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام فإن أبى قتل .
قوله تعالى : { ويكون الدين } . أي الطاعة والعبادة .
قوله تعالى : { لله } . وحده ، فلا يعبد شيء دونه . قال نافع : جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير فقال : ما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي ، قال : ألا تسمع ما ذكره الله عز وجل ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) فقال : يا ابن أخي : لأن أعتبر بهذه الآية ولا أقاتل ، أحب إلي من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل فيها ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً ) . قال : ألم يقل الله ، ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ؟ قال قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلاً ، وكان الرجل يفتن في دينه ، إما يقتلونه أو يعذبونه ، حتى كثر الإسلام ، فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .
وعن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عمر : كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : هل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس قتالكم كقتالهم على الملك .
قوله تعالى : { فإن انتهو } . عن الكفر وأسلموا .
قوله تعالى : { فلا عدوان } . فلا سبيل .
قوله تعالى : { إلا على الظالمي } . قال ابن عباس : يدل عليه قوله تعالى ( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) أي ، فلا سبيل علي ، وقال أهل المعاني : العدوان الظلم ، أي فإن أسلموا فلا نهب ولا أسر ولا قتل ، إلا على الظالمين . الذين بقوا على الشرك ، وما يفعل بأهل الشرك من هذه الأشياء لا يكون ظلماً ، وسماه عدواناً على طريق المجازاة والمقابلة ، كما قال : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) وكقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وسمي الكافر ظالماً لأنه يضع العبادة في غير موضعها .
وقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ } معطوف على جملة { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } والضمير " هم " يعود على الذين يقاتلون المسلمين وهم من سبق الحديث عنهم .
والمراد من { والفتنة } الشرك وما يتبعه من أذى المشركين للمسلمين واضطهادهم وتعذيبهم .
قال الآلوسي : ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإِسلام أو السيف . لقوله - سبحانه - : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله " .
والدين في اللغة : العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله - تعالى - سواء أكان ما تعبد الصلاح في الحال والفلاح في المآل .
والمعنى : قالتوا أولئك المشركين حتى تزيلوا الشرك ، وحتى تكسروا شوكتهم ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق ، وحتى يكون الدين الظاهر في الأرض هو الدين الذي شرعه الله - تعالى - على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد تحقق ذلك بالقتال الذي داربين المسلمين وبين المشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلى الله عليه وسلم وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه ، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل ، وقبل أن يلتحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو الدين الإِسلامي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } والعدوان في أصل اللغة : الاعتداء والظلم الذي هو من الأفعال المحرمة والمراد به في الآية القتل حيث يرتكب جزاء للظالمين .
والفاء في قوله : { فَإِنِ انتهوا } للتعقيب . وقوله : { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } قائم مقام جواب الشرط ، لأنه علة الجواب المحذوف .
والمعنى : فإن امتنعوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه ، وأذعنوا لتعاليم الإِسلام ، فكفوا عن قتالهم ، لأنهم قد انتفى عنهم وصف الظلم ، وما دام قد انتفى عنهم هذا الوصف فلا يصح أن تقاتلوهم ، إذ القتال إنما يكون للظالمين تأديباً لهم ليرجعوا عن ظلمهم .
ففي الجملة الكريمة إيجاز بالحذف ، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه .
قال الإِمام الرازي : أما قوله - تعالى - : { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } ففيه وجهان :
الأول : فإن انتهوا فلا عدوان أي : فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر ، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم قال - تعالى - { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فإن قيل : لم يسمى ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه صواب ؟ قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه ، كقوله - تعالى - : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } الثاني : إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين ، فتسلط عليكم من يعتدى عليكم .
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله ، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام ، وتسلط عليهم فيه المغريات والمضللات والمفسدات . وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه ، ويهابه أعداؤه ، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة ، ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة . . والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة ؛ وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة :
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )
وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة ، وهي التي كانت تفتن الناس ، وتمنع أن يكون الدين لله ، فإن النص عام الدلالة ، مستمر التوجيه . والجهاد ماض إلى يوم القيامة . ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين ، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله ، والاستجابة لها عند الاقتناع ، والاحتفاظ بها في أمان . والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة ؛ وتطلق الناس أحرارا من قهرها ، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله .
وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة ، بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل . . هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام ؛ وينشىء مبدأ عظيما يعني في حقيقته ميلادا جديدا للإنسان على يد الإسلام . ميلادا تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته ، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة ، فترجح كفة العقيدة . كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء " الإنسان " . . إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمنا عن دينه ، ويؤذون مسلما بسبب إسلامه . أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله . . وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم ، وأن تقتلهم حيث وجدتهم ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . .
وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائما . وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى العصور . . وما يزال الأذي والفتنة تلم بالمؤمنين أفرادا وجماعات وشعوبا كاملة في بعض الأحيان . . وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور ، وفي أي شكل من الأشكال ، مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل ؛ وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام ، فكان ميلادا جديدا للإنسان . .
فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم ؛ وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم ؛ فلا عدوان عليهم - أي لا مناجزة لهم - لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين :
( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) .
ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانا من باب المشاكلة اللفظية . وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين .
ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار : { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شرك . قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسُّدي ، وزيد بن أسلم .
{ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } أي : يكونَ دينُ الله هو الظاهر [ العالي ]{[3396]} على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيحين : عن أبي موسى الأشعري ، قال : سُئِل النبي{[3397]} صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة ، ويقاتل حَميَّة ، ويقاتل رياء ، أيّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[3398]} . وفي الصحيحين : " أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله " {[3399]} وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } يقول : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ، وقتال المؤمنين ، فكُفُّوا عنهم ، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين ، وهذا معنى قول مجاهد : لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل . أو يكون تقديره ؛ فإن انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم ، وهو الشرك . فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة ، كقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . ولهذا قال عكرمة وقتادة : الظالم : الذي أبى أن يقول : لا إله إلا الله .
وقال البخاري : قوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ]{[3400]} } الآية : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا{[3401]} : إن الناس صنعوا{[3402]} وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . قالا ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله . زاد عثمان ابن صالح{[3403]} عن ابن وهب قال : أخبرني فلان وحيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو المعافري{[3404]} أن بُكَير بن عبد الله حدثه ، عن نافع : أن رجلا أتى ابن عمر فقال [ له ]{[3405]} يا أبا عبد الرحمن ، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر{[3406]} عامًا ، وتترك الجهاد في سبيل الله ، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال : يا ابن أخي ، بُني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله ، والصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت . قال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] ، { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } قال : فعلنا على عهد النبي{[3407]} صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه : إما قتلوه أو عذبوه{[3408]} حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، قال : فما قولك في علي وعثمان ؟ قال : أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا {[3409]} عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، وأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون{[3410]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تَكُونَ فتنةٌ يعني : حتى لا يكون شرك بالله ، وحتى لا يعبد دونه أحد ، وتضمحل عبادة الأوثان والاَلهة والأنداد ، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان كما قال قتادة فيما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون شرك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون شرك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : الشرك ويَكُونَ الدّينُ لِلّهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : أما الفتنة : فالشرك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول : قاتلوا حتى لا يكون شرك .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَقَاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُون فِتْنَةٌ أي شرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون كفر ، وقرأ : تُقاتِلُوَنُهمْ أوْ يُسْلِمُونَ .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول : شرك .
وأما الدين الذي ذكره الله في هذا الموضع فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه ، من ذلك قول الأعشى :
هُوَ دَانَ الرّبابَ إذْ كَرِهُوا الدّينَ دِرَاكا بغزْوَةٍ وصِيال
يعني بقوله : إذ كرهوا الدين : إذ كرهوا الطاعة وأبوها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ويَكُونَ الدّين للّهِ يقول : حتى لا يعبد إلا الله ، وذلك لا إله إلا الله ، عليه قاتل النبيّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أُمِرْتُ أنْ أُقُاتِلَ النّاسَ حّتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله ، ويقِيمُوا الصّلاةَ ، ويُؤْتُوا الزّكاةَ ، فإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مّني دِماءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابهُمْ على اللّهِ » .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ويَكُونَ الدّينُ لِلّهِ أن يقال : لا إله إلا الله . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ أمَرَنِي أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حّتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله » . ثم ذكر مثل حديث الربيع .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ . }
يعني تعالى ذكره بقوله : فإنِ انْتَهَوْا : فإن انتهى الذين يقاتلونكم منَ الكفار عن قتالكم ، ودخلوا في ملتكم ، وأقرّوا بما ألزمكم الله من فرائضه ، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ، فدعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم ، فإنه لا ينبغي أن يعتدى إلا على الظالمين وهم المشركون بالله ، والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم .
فإن قال قائل : وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ ؟ قيل : إن المعنى في ذلك غير الوجه الذي ذهبتَ ، وإنما ذلك على وجه المجازاة لِما كان من المشركين من الاعتداء ، يقول : افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم ، كما يقال : إن تعاطيت مني ظلما تعاطيته منك ، والثاني ليس بظلم ، كما قال عمرو بن شأس الأسدي :
جَزَيْنا ذَوي العُدْوَانِ بالأمسِ قَرْضَهُمْ قِصَاصا سَوَاءً حَذْوَكَ النّعْلَ بالنّعْلِ
وإنما كان ذلك نظير قوله : ( اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ) و( يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سخَر اللّهُ مِنْهُمْ ) وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مضى قبل . وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ والظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ قال : هم المشركون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عثمان بن غياث ، قال : سمعت عكرمة في هذه الآية : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ : قال : هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله .
وقال آخرون : معنى قوله : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ فلا تقاتل إلا من قاتل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ يقول : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ فإن الله لا يحبّ العدوان على الظالمين ولا على غيرهم ، ولكن يقول : اعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم .
فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ لا يجوز أن يقول فإن انتهوا ، إلا وقد علم أنهم لا ينتهون إلا بعضهم ، فكأنه قال : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم ، فأضمر كما قال : فَمَنْ تَمَتّعَ بِالعُمرةِ إلى الحجّ فَمَا اسْتَيْسرَ من الهدْيِ يريد فعليه ما استيسر من الهَدْيِ ، وكما تقول : إلى من تقصد أقصد ، يعني إليه . وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله ، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم لمن انتهى ، ولا عدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون .
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } شرك { ويكون الدين لله } خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب { فإن انتهوا } عن الشرك . { فلا عدوان إلا على الظالمين } أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم ، فوضع العلة موضع الحكم . وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم ، والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء .
عطف على جملة { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة ؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبيَّنة .
وقد تضمنت الجمل السابقة من قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] إلى هنا تفصيلاً لجملة { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ؛ لأن عموم { الذين يقاتلونكم } تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة . فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال ، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام ، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله : { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] ، فإعادة فعل { وقاتلوهم } لتبنى عليه الغاية بقوله : { حتى لا تكون فتنة } وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين { وقاتلوا في سبيل الله } وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله . فـ ( حتى ) في قوله : { حتى لا تكون } إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى ، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان ؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد ، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن ( حتى ) معنى التعليل ، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم } [ البقرة : 217 ] . وأيَّا ما كان فالمضارع منصوب بعد ( حتى ) بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية .
والفتنة تقدمت قريباً . والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك ، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } [ البقرة : 191 ] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى ؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساوياً للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلاّ أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلاّ فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث : « ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلاّ دخلته » .
وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين : إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه ، وإما بأن يقتلوا جميعاً فتزول الفتنة بفناء الفاتنين . وقد يُفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم ، إلاّ أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر ، ولذلك فليس المقصود هنا إلاّ أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل ، وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا ، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ، ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركين العرب الجزية ، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيراً باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ .
وقوله : { ويكون الدين لله } عطف على { لا تكون فتنة } فهو معمول لأن المضمرة بعد ( حتى ) أي وحتى يكون الدين لله ، أي حتى لا يكون دين هنالك إلاّ لله أي وحده .
فالتعريف في الدين تعريف الجنس ، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق .
واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الدين مختصاً بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه ، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد ، والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصاً لله لاحظ للإشراك فيه .
والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحاً إذا كان مخلوط العناصر .
وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثراً جيداً قال : جاءَ رجلان إلى ابن عمر أيام فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي ، فقالا : ألم يقل الله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } فقال ابن عمر : قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ، قال ابن عمر : كان الإسلام قليلاً فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة . وسيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الآنفال .
وقوله : { فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } ، أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم ، وهذا تصريح بمفهوم قوله : { الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريحَ بأهم الغايتين من القتال ؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال .
وقوله : { فلا عدوان إلا على الظالمين } قائم مقام جواب الشرط لأنه علة الجواب المحذوف ، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال ، لأنهم غير ظالمين ؛ وإذ لا عدوان إلاّ على الظالمين ، وهو مجاز بديع .
والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم ، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدواناً مشاكلة لقوله : { على الظالمين } كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة . وهذه المشاكلة تقديرية .