قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } . نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبية ، فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام القابل فيقضي عمرته ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك ورجع في العام القابل في ذي القعدة ، وقضى عمرته سنة سبع من الهجرة ، فذلك معنى قوله تعالى ( الشهر الحرام ) يعني ذي القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم فيه عمرتكم سنة سبع . ( بالشهر الحرام ) يعني ذا القعدة الذي صددتم فيه عن البيت سنة ست .
قوله تعالى : { والحرمات قصاص } . جمع حرمة وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام ، والبلد الحرام وحرمة الإحرام ، والقصاص : المساواة والمماثلة ، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل ، وقيل : هذا في أمر القتال معناه : إن بدؤوكم بالقتال في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإنه قصاص بما فعلوا فيه .
قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } . وقاتلوه .
قوله تعالى : { بمثل ما اعتدى عليكم } . سمى الجزاء باسم الابتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ( واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) .
وقوله - تعالى - : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم ، وإيذان بأن مراعاة حرمة الشهر الحرام إنما هي واجبة في حق من يصون حرمته ، أما من هتكها فقد صار بسبب انتهاكه لحرمة الشهر الحرام محلا للقصاص والمعاقبة في الشهرالحرام وفي غيره .
وسمي الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه ، والتعريف فيه - على الراجح - للجنس فهو يشمل الأشهر الحرم جميعها وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب .
قال - تعالى - : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } قال القرطبي : نزلت في عمرة القضاء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف ووعده - سبحانه - أنه سيدخله فدخله في ذي القعدة سنة سبع وقضى نسكه ونزلت هذه الآية .
والمعنى : هذا الشهر الحرام الذي تؤدون فيه عمرة القضاء ، بذلك الشهر الحرام الذي صدكم المشركون فيه عن دخول المسجد الحرام ، فإذا بدءوا بانتهاك حرمته بقتالكم فيه ، فلا تبالوا أن تقاتلوهم فيه دفاعاً عن أنفسكم ، إذ هم البادئون بهتك حرمته .
وقوله : { والحرمات قِصَاصٌ } متضمن لإِقامة الحجة على الحكم السابق والحرمات : جمع حرمة ، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك .
والقصاص : المساواة . أي ، وكل حرمة يجري فيها القصاص . فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة .
والمراد : أن المشركين إذا أقدموا على مقاتلتكم - أيها المؤمنون - في الحرم أو في الشهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضاً على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل ، حتى لا يتخذوا الأشهرا لحرام ذريعة للغدر والإِضرار بكم .
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } .
أي : فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجاوزوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم بدون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم .
وسمى جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة .
قال الآلوسي : واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق . حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح . واستدل بها أيضاً على أن من غصب شيئاً وأتلفه لزمه رد مثله ، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة - كما في ذوات الأمثال - وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالتقوى والخشية منه فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } .
أي : اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم ، وترك الاعتداء فيما لا يرخص لكم فيه ، واعلموا أن الله مع الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالنصر والرعاية والتأييد .
ثم يبين حكم القتال في الأشهر الحرم كما بين حكمه عند المسجد الحرام :
( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله ، واعلموا أن الله مع المتقين ) . .
فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام . وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان ؛ كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان . تصان فيها الدماء ، والحرمات والأموال ، ولا يمس فيها حي بسوء . فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها ، فجزاؤه أن يحرم هو منها . والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته ، فالحرمات قصاص . . ومع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها . فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها :
( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) . .
بلا تجاوز ولا مغالاة . . والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم . وقد كانوا يعلمون - كما تقدم - أنهم إنما ينصرون بعون الله . فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين . بعد أمرهم بالتقوى . . وفي هذا الضمان كل الضمان . .
قال عكرمة ، عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، ومِقْسَم ، والربيع بن أنس ، وعطاء وغيرهم : لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة ، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة ، وهو شهر حرام ، حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية ، هو ومن كان [ معه ]{[3411]} من المسلمين ، وأقَصه الله منهم ، فنزلت في ذلك هذه الآية : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا{[3412]} فإذا حضره أقام حتى ينسلخ{[3413]} .
هذا إسناد صحيح ؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو مُخَيِّم بالحديبية - أن عثمان قد قتل - وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين - بايع أصحابه ، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين ، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان .
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف ، عَدَل إليها ، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس{[3414]} . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانة ، حيث قسم غنائم حُنين . وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين : كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد ، ثم نسخ بآية الجهاد{[3415]} بالمدينة . وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير ، وقال : بل [ هذه ]{[3416]} الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة ، وعزا ذلك إلى مجاهد ، رحمه الله .
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص ، من باب المقابلة ، كما قال عمرو بن أم كلثوم :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لي استواء إن موالى استوا *** لي التواء إن تعادى التوا
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم*** ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
ومن رام تقويمي فإني مقوم*** ومن رام تعويجي فإني معوج
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ ذا القعدة ، وهو الشهر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عمرة الحديبية ، فصده مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة ، وكان ذلك سنة ستّ من هجرته ، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة ، على أن يعود من العام المقبل ، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا ، فلما كان العام المقبل ، وذلك سنة سبع من هجرته خرج معتمرا وأصحابه في ذي القعدة ، وهو الشهر الذي كان المشركون صدّوه عن البيت فيه في سنة ستّ ، وأخلى له أهل مكة البلد ، حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى حاجته منها ، وأتمّ عمرته ، وأقام بها ثلاثا ، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معه : الشّهْرُ الحَرَامُ يعني ذا القعدة الذي أوصلكم الله فيه إلى حرمه وبيته على كراهة مشركي قريش ذلك حتى قضيتم منه وطركم بالشّهْرِ الحَرَامِ الذي صدكم مشركو قريش العام الماضي قبله فيه ، حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم ، فلم تدخلوه ولم تصلوا إلى بيت الله ، فأقصكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك ، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصدّ والمنع من الوصول إلى البيت . كما :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف ، يعني ابن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : وَالحُرُماتُ قِصَاصٌ قال : هم المشركون حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، فرجعه الله في ذي القعدة ، فأدخله البيت الحرام ، فاقتصّ له منهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ قال : فخرَت قريش بردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام ، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القعدة فقضى عمرته ، وأقصّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ ، أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القعدة ومعهم الهديُ ، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون ، فصالحهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ، حتى يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاثة أيام ، ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة ، فنحروا الهدي بالحديبية ، وحلقوا وقصروا . حتى إذا كان من العام المقبل أقبل نبيّ الله وأصحابه حتى دخلوا مكة ، فاعتمروا في ذي القعدة ، فأقاموا بها ثلاث ليال ، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية ، فأقصه الله منهم ، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه في ذي القعدة ، فقال الله : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وعن عثمان ، عن مقسم في قوله : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ قالا : كان هذا في سفر الحديبية ، صدّ المشركون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام ، فقاضُوا المشركين يومئذٍ قضية «إن لكم أن تعتمروا في العام المقبل » في هذا الشهر الذي صدوهم فيه ، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرا حراما يعتمرون فيه مكان شهرهم الذي صدوا ، فلذلك قال : والحُرُماتُ قِصَاصٌ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ قال : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ من مهاجره صدّه المشركون ، وأبوا أن يتركوه ، ثم إنهم صالحوه في صلحهم على أن يخلوا له مكة من عام قابل ثلاثة أيام يخرجون ، ويتركونه فيها ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر من السنة السابعة ، فخلوا له مكة ثلاثة أيام ، فنكح في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث الهلالية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ أحصروا النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت الحرام ، فأدخله الله البيت الحرام العام المقبل ، واقتصّ له منهم ، فقال : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأحرموا بالعمرة في ذي القعدة ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العام حتى يرجع العام المقبل ، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ، ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة . فنحروا الهدي بالحديبية ، وحلقوا وقصروا . حتى إذا كانوا من العام المقبل ، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة ، فاعتمروا في ذي القعدة وأقاموا بها ثلاثة أيام ، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية ، فقاصّ الله له منهم ، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه في ذي القعدة . قال الله جل ثناؤه : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : والحُرُماتُ قِصَاصٌ فهم المشركون كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت ، ففخروا عليه بذلك ، فرجعه الله في ذي القعدة ، فأدخله الله البيت الحرام واقتصّ له منهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ حتى فرغ من الآية . قال : هذا كله قد نسخ ، أمره أن يجاهد المشركين . وقرأ : ( قاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً ) وقرأ : ( قاِتلُوا الّذِين يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ ) العرب ، فلما فرغ منهم ، قال الله جل ثناؤه : ( قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونِ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرمَ الله ورَسُولُهُ ) حتى بلغ قوله : ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) قال : وهم الروم قال : فوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ قال : أمركم الله بالقصاص ، ويأخذ منكم العدوان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء وسألته عن قوله : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماُت قِصَاصٌ قال : نزلت في الحديبية ، منعوا في الشهر الحرام ، فنزلت : الشّهْرُ الحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ عمرة في شهر حرام بعمرة في شهر حرام .
وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القعدة الشهر الحرام ، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرّم فيه القتال والقتل وتضع فيه السلاح ، ولا يقتل فيه أحد أحدا ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه . وإنما كانوا سموه ذا القعدة لقعودهم فيه عن المغازي والحروب ، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تسميه به .
وأما الحرمات فإنها جمع حرمة كالظلمات جمع ظلمة ، والحجرات جمع حجرة .
وإنما قال جل ثناؤه : والحُرُماتُ قِصَاصٌ فجمع ، لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام ، فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه : دخولكم الحرم بإحرامكم هذا في شهركم هذا الحرام قصاص مما منعتم من مثله عامكم الماضي ، وذلك هو الحرمات التي جعلها الله قصاصا .
وقد بينا أن القصاص هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البدن ، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ . }
اختلف أهل التأويل فيما نزل فيه قوله : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ . فقال بعضهم بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ، وليس لهم سلطان يقهر المشركين ، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه أو يصبر أو يعفو فهو أمثل فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وأعزّ الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم ، وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين ، فقاتلوهم كما قاتلوكم . وقالوا : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبعد عمرة القضية . ذكر من قال ذلك :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم .
وأشبه التأويلين بما دلّ عليه ظاهر الآية الذي حكي عن مجاهد ، لأن الاَيات قبلها إنما هي أمر من الله للمؤمنين بجهاد عدوّهم على صفة ، وذلك قوله : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والاَيات بعدها ، وقوله : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ إنما هو في سياق الاَيات التي فيها الأمر بالقتال والجهاد ، والله جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة فمعلوم بذلك أن قوله : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) مدني لا مكي ، إذ كان فرض قتال المشركين لم يكن وجب على المؤمنين بمكة ، وأن قوله : فَمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ نظير قوله : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ، وأن معناه : فمن اعتدى عليكم في الحرم فقاتلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم ، لأني قد جعلت الحرمات قصاصا ، فمن استحلّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حرمة في حرمي ، فاستحلوا منه مثله فيه .
وهذه الآية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرم ابتداء في الحرم وقوله : ( وَقاتِلُوا المُشْركِين كافّةً ) على نحو ما ذكرنا من أنه بمعنى المجازاة وإتباع لفظ لفظا وإن اختلف معنياهما ، كما قال : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وقد قال : فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنُهمْ وما أشبه ذلك مما أتبع لفظ لفظا واختلف المعنيان .
والاَخر أن يكون بمعنى العَدْوِ الذي هو شدّ ووثوب من قول القائل : عدا الأسد على فريسته .
فيكون معنى الكلام : فمن عدا عليكم : أي فمن شدّ عليكم ووثب بظلم ، فاعدوا عليه : أي فشدّوا عليه وثبوا نحوه قصاصا لما فعل بكم لا ظلما ثم تدخل التاء في «عدا » ، فيقال افتعل مكان فعل ، كما يقال : اقترب هذا الأمر بمعنى قرب ، واجتلب كذا بمعنى جلب ، وما أشبه ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أن اللّهَ مَعَ المُتّقِين . }
يعني جل ثناؤه بذلك : واتقوا الله أيها المؤمنون في حرماته وحدوده أن تعتدوا فيها فتتجاوزوا فيها ما بينه وحده لكم ، واعلموا أن الله يحبّ المتقين الذين يتقونه بأداء فرائضه وتجنب محارمه .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به . { والحرمات قصاص } احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص . فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم . كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهو فذلكة التقرير . { واتقوا الله } في الأنصار { ولا تعتدوا } إلى ما لم يرخص لكم . { واعلموا أن الله مع المتقين } فيحرسهم ويصلح شأنهم .
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني ؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها . فإن كان هذا تشريعاً نازلاً على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم ، وإن كان نازلاً على سبب كما قيل : إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألاَّ يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام ، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية ، أو ما روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم حين اعتمر عمرة القضية : أنُهيِتَ يا محمدُ عن القتال في الشهر الحرام قال : نعم ، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة ، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام ، والتقدير حرمة الشهر الحرام ، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته .
وقيل : معنى قوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } ، أن قريشاً صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم : هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه ، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، يعني أنه من قبيل قولهم : « يوم بيوم والحرْب سجال » .
والباء في قوله : { بالشهر الحرام } للتعويض كقولهم : صاعاً بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان .
والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر ، لأنه يفيد حكماً عاماً ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية ، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية .
والأشهر الحرم أربعة : ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهاباً ورجوعاً وأداء ، وشهر واحد مفرد وهو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرَّمته مضر كلها ولذلك يقال له : رَجبُ مضر ، وقد أشير إليها في قوله تعالى : { منها أربعة حرم } [ التوبة : 36 ] .
وقوله : { والحرمات قصاص } تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحجة لما قبله من قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } الخ ، فالجملة تذييل والواو اعتراضية .
ومعنى كونها قصاصاً أي مماثلة في المجازاة والانتصاف ، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته ، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه ، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة ، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] ، والإخبار عن الحرمات بلفظ ( قصاص ) إخبار بالمصدر للمبالغة .
وقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } تفريع عن قوله : { والحرمات قصاص } ونتيجة له ، وهذا وجه قول « الكشاف » : إنه فذلكة ، وسُمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكلة على نحو ما تقدم آنفاً في قوله : { فلا عدوان إلا على الظالمين } [ البقرة : 193 ] .
وقوله : { بمثل ما اعتدى عليكم } يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام .
وقوله : { واتقوا الله } أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد ، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط .
وقوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما سيقوله ، فإن قولك في الخطاب : اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة الأنفال ( 24 ) ، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية ، ويجوز أن يكون المعنى : واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار : واعلموا أن الله مع المتقين فهو يجعلهم بمحل عنايته .