قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } ، أي : استقم على دين ربك ، والعمل به ، والدعاء إليه كما أمرت ، { ومن تاب معك } ، أي : ومن آمن معك فليستقيموا ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعلب . أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ، أنا والدي إملاء ، ثنا أبو بكر محمد بن إسحاق ، ثنا محمد بن العلاء بن كريب ، ثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : " قلت ، يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال قل آمنت بالله ثم استقم " .
قوله تعالى : { ولا تطغوا } لا تجاوزوا أمري ولا تعصوني ، وقيل : معناه ولا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيت .
قوله تعالى : { إنه بما تعملون بصير } ، لا يخفى عليه من أعمالكم شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ، ولذلك قال : " شيبتني هود وأخواتها " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد ابن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام بن مطهر ثنا عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بالتزام الصرام المستقيم فقال - سبحانه - : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
والفاء للتفريع على ما تقدم من الأوامر والنواهى .
والاستقامة - كما يقول القرطبى - هي الاستمرار فى جهة واحدة من غير أخذ فى جهة اليمين والشمال . . .
والطغيان : مجاوزة الحد . ومنه طغى الماء ، أى ارتفع وتجاوز الحدود المناسبة .
والمعنى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - حال السعداء وحال الأشقياء ، وعرفت أن كل مكلف سيوفى جزاء أعماله .
وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم .
وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم .
ووجه - سبحانه - الأمر بالاستقامة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تنويها بشأنه ، وليبنى عليه قوله - { كَمَآ أُمِرْتَ } ، فيشي بذلك إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - هو وحده المتلقى للأوامر الشرعية من الله - تعالى - .
وقد جمع قوله - تعالى - { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } أصول الإِصلاح الدينى وفروعه ، كما جمع قوله - تعالى - " ولا تطغوا " أصول النهى عن المفاسد وفروعه ، فكانت الآية الكريمة بذلك جامعة لإِقامة المصالح ولدرء المفاسد .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : يأمر الله - تعالى - رسوله وعباده المؤمنين فى هذه الآية بالثبات والدوام على الاستقامة ، لأن ذلك من العون على النصر على الأعداء ، وينهاهم عن الطغيان وهو البغى ، لأنه مصرعه حتى ولو كان على مشرك .
وقال الآلوسى : والاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق .
أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال ، لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -
" شمروا شمروا ، وما رؤى بعد ضاحكا " .
وعن ابن عباس قال : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آية أشد من هذه الآية ولا أشق " .
وفى صحيح مسلم عن سفيان عن عبد الله الثقفى قال : " قلت يا رسول الله ، قل لى فى الإِسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك . قال : " قل آمنت بالله ثم استقم " " .
وجملة { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تعليل للأمر بالاستقامة وللنهى عن الطغيان .
أى : الزموا المنهج القويم ، وابتعدوا عن الطغيان ، لأنه - سبحانه - مطلع على أعمالكم اطلاع المبصر ، العليم بظواهرها وبواطنها ، وسيجازيكم يوم القيامة عليها بما تستحقون من ثواب وعقاب .
ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي و عيده . وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم - كما أمروا - لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه ، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم ، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق . ثم يتزودون بزاد الطريق ، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد .
( فاستقم كما أمرت - ومن تاب معك - ولا تطغوا . إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين ، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . .
هذا الأمر للرسول [ ص ] ومن تاب معه :
( فاستقم كما أمرت ) . . أحس - عليه الصلاة والسلام - برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه : " شيبتني هود . . . " . فالاستقامة : الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف . وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة ، والتدبر الدائم ، والتحري الدائم لحدود الطريق ، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلا أو كثيرا . . ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة .
وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة ، لم يكن نهيا عن القصور والتقصير ، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة . . وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر . والله يريد دينه كما أنزله ، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو ، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير . وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة ، لإمساك النفوس على الصراط ، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء . .
والبصر - من البصيرة - مناسب في هذا الموضع ، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فاستقم } أنت ، يا محمد ، على أمر ربك والدين الذي ابتعثك به والدعاء إليه ، كما أمرك ربك . { وَمَنْ تَابَ مَعَكَ } ، يقول : ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره . { وَلا تَطْغَوْا } ، يقول : ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه . { إنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، يقول : إن ربكم ، أيها الناس ، بما تعملون من الأعمال كلها طاعتها ومعصيتها بصير ذو علم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو لجميعها مبصر ، يقول تعالى ذكره : فاتقوا الله أيها الناس أن يطلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم بما تعلمون ، وهو لكم بالمرصاد .
وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله : { فاسْتَقِمْ كمَا أُمِرْتَ }ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان في قوله : { فاسْتَقِمْ كمَا أُمِرْتَ } ، قال : استقم على القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا تَطْغَوْا } ، قال : الطغيان : خلاف الله وركوب معصيته ذلك الطغيان .
{ فاستقم كما أُمرت } لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة ، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين ، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوهما وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " شيبتني هود " . { ومن تاب معك } أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك ، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه . { ولا تطغوا } ولا تخرجوا عما حد لكم . { إنه بما تعملون بصير } فهو مجازيكم عليه ، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي . وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فاستقم} أنت، يا محمد، على أمر ربك والدين الذي ابتعثك به والدعاء إليه، كما أمرك ربك. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}، يقول: ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره. {وَلا تَطْغَوْا}، يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه.
{إنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، يقول: إن ربكم، أيها الناس، بما تعملون من الأعمال كلها طاعتها ومعصيتها بصير ذو علم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو لجميعها مبصر، يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله أيها الناس أن يطلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره، فإنه ذو علم بما تعلمون، وهو لكم بالمرصاد...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يستقيموا كما أمرهم الله، وكذلك من رجع إلى الله... "ولا تطغوا "يعني في الاستقامة، فيخرجوا عن حدها بالزيادة على ما أمرهم فرضا كان أو نفلا. وقيل: معناه لا تطغينكم النعمة، فتخرجوا من الاستقامة. والاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة، وأن لا يعدل يمينا وشمالا. والطغيان: تجاوز المقدار في الفساد. والطاغي كالباغي في صفة الذم، وطغى الماء مشبه بحال الطاغي، وإنما خص من تاب دون من أسلم من أول حاله للتغليب في الأكثر ويدخل فيه الأقل على وجه التبع. وقوله: "انه بما تعملون بصير" إخبار منه تعالى أنه عالم بأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقِّها من غير إخلالٍ بها، فلا يكون في سلوك نهج الوِفاقِ انحرافٌ عنه. ويقال المستقيمُ مَنْ لا ينصرف عن طريقه، يواصل سيره بمسراه، وورعه بتقواه، ويتابع في ترك هواه. ويقال استقامة النفوس في نفي الزَّلَّة، واستقامة القلوب في نفي الغفلة، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة. استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسَهم عن العبادة وألا يُخِلُّوا بأدائها، ويقضون عسيرَها ويسيرَها. واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها. واستقامة التائبين ألا يُلِمُّوا بعقوة زلة فَيَدَعونَ صغيرَها وكبيرَها... وعلى هذا النحو استقامة كلِّ أحدٍ. قوله {وَمَن تَابَ مَعَكَ}: أي فَلْيَستَقِمْ أيضاً مَنْ معك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى...
اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله: {فاستقم كما أمرت} وهذه الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال، سواء كان مختصا به أو كان متعلقا بتبليغ الوحي وبيان الشرائع، ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جدا، وأنا أضرب لذلك مثالا يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم، وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض، إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه، فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس، فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه.
إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية؛
فأولها: معرفة الله تعالى وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العبد مصونا في طرف الإثبات عن التشبيه، وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضا فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفَا إفراط وتفريط وهما مذمومان، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين، والوقوف عليه صعب ثم العمل به أصعب، فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة، بتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: « شيبتني هود وأخواتها،»...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مَصرَعة حتى ولو كان على مشرك. وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب كما جرت بذلك السنة الإلهية وأن الجزاء بالأعمال كلها لا بد منه {فاستقم} أي أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلاّ نفسك وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء، ومن استقام استقيم له. ولما كان من المقطوع به أن الآمر له صلى الله عليه وسلم مَن له الأمر كله، بني للمفعول قوله: {كمآ أمرت} أي كما استقام إخوانك من الأنبياء في جميع الأصول والفروع سواء كان في نفسك أو في تبليغ غيرك معتدلاً بين الإفراط والتفريط ولا يضيق صدرك من استهزائهم وتعنتهم واقتراحهم للآيات وإرادتهم أن تترك بعض ما يوحى إليك من التشنيع عليهم والعيب لدينهم بل صارحهم بالأمر واتركهم وأهواءهم، نحن ندبر الأمر كما نريد على حسب ما نعلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فاستقم كما أمرت} أي إذا كان أمر أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم مثل ما أمرناك في هذا الكتاب، أي الزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بالثبات عليه، واتقاء الاختلاف فيه.
{ومن تاب معك} أي وليستقم معك من تاب من الشرك وآمن بك واتبعك {ولا تطغوا} فيه بتجاوز حدوده غلوا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كل منهما زيغ عن الصراط المستقيم، وهو يدل على وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية وهي العقائد والعبادات وعلى اجتناب الرأي وبطلان التقليد فيها.
{إنه بما تعملون بصير} أي إنه تعالى بصير بعملكم، يبصر به، ويراه وحيط به علما، فيجزيكم به. يقال: بصر بالشيء في اللغة الفصحى ومنه {فبصرت به عن جنب} [القصص: 11]...
هذا وإن مقام الاستقامة لأعلى المقامات، يرتقى به لأعلى الدرجات، كما يدل عليه هذا الأمر به للرسول صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين، ولموسى وهارون عليهما السلام في قوله {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} [يونس: 89]، وقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا} [فصلت: 30] الآيات. وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال (قل آمنت بالله ثم استقم)، فالاستقامة عين الكرامة كما قالوا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي و عيده. وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم -كما أمروا- لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق. ثم يتزودون بزاد الطريق، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد...
(فاستقم كما أمرت).. أحس -عليه الصلاة والسلام- برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه:"شيبتني هود...".
فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلا أو كثيرا.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة. وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر. والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير. وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء.. (إنه بما تعملون بصير).. والبصر -من البصيرة- مناسب في هذا الموضع، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير.. فاستقم -أيها الرسول- كما أمرت. ومن تاب معك ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ترتب عن التسلية التي تضمّنها قوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} [هود: 110] وعن التثبيت المفاد بقوله: {فلا تك في مرية ممّا يَعبد هؤلاء} [هود: 109] الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم. وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواماً جماعهُ الاستقامة عليه والحذر من تغييره...
ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السّلام إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمرُ المؤمنين بتلك الاستقامة أيضاً، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأنّ مخالفة الأمّة عمداً إلى أحكام كتابها إن هو إلاّ ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأنّه اختلافها على أحكامه...
{ولا تطغوا} موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم {ومن تاب معك}. والطغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلة الاكتراث، وتقدّم في قوله تعالى: {ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون} في سورة [البقرة: 15]. والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي} [طه: 81]. فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل. وقد شمل الطغيان أصول المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودَرْء المفاسد، فكان النهي عنه جامعاً لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بعد هذا: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار} [هود: 113]. وعن الحسن البصري: جعل الله الدّين بين لاءَيْن {ولا تطغوا} {ولا تركنوا} [هود: 113]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
.. وهكذا يريد الله للمسيرة الجديدة ألاّ تنحرف كما انحرف أتباع الرسالات السابقة، بل أراد أن تسير في خطها المستقيم الذي رسمه الله للناس على صعيد الفكر أو العمل أو الموقف أو العلاقات، فلا يتجاوزونه إلى غيره، ولا يبتعدون فيه إلى الحد الذي ينفصلون به عن القاعدة الثابتة. وهذا ما أكّده الله في أكثر من آية حين اعتبر الاستقامة أساساً للشخصية الإسلامية، كما أنها التزام بتوحيد لله في القاعدة، ثم هي استقامةٌ على هذا الخط في كل شيء، فكل الحياة في مناهجها وأساليبها وعلاقاتها ترتبط به، لأن الفكر والعمل، يتحركان بين خط الشرك وبين خط التوحيد، فلا مجال أمام الإنسان سوى اختيار أحدهما، فمن انحرف عن خط التوحيد وجد نفسه في خط الشرك، ولذلك كانت الاستقامة لا تعني للإنسان المسلم شيئاً آخر سوى الالتزام بخط التوحيد في حركة الفكر والعمل...
ولعلّ في هذا الأمر الموجّه للنبي وللمؤمنين معاً، إيحاءً بأن النبي لا يختلف عن المؤمنين في المسؤوليات التفصيلية لخط السير، لأنه يتحرك في حياته، بصفته المسلم الأوّل الذي لا بد أن يطبّق الإسلام على نفسه، قبل أن يدعو إليه، ليكون الداعية بالقدوة، قبل أن يكون الداعية بالكلمة، وبهذا يمكننا استيحاء الردّ على الذين يفرضون للنبيّ تكليفاً غامضاً يختلف عن تكليف بقية المسلمين، فيرون أننا لا نستطيع اعتبار أيّ عمل يقوم به، لا سيما في خط الجهاد، لأنه أعرف بتكليفه الشرعي الذي قد لا نعرفه. إننا نستوحي من هذه الآيات وغيرها، أنّ الله يخاطبه كما يخاطب غيره، لأنه مسؤول عما هم مسؤولون عنه، إلا أنه يختلف عنهم بصفة القيادة الرسالية والحاكمية، التي تجعل مسؤولياته أكثر ثقلاً من مسؤولياتهم، ولكنها لا تبتعد عن الخطوط العامة للتشريع في مجال الدعوة والحكم، ولولا ذلك لما كان هناك معنى للقدوة التي ترى في سلوكه شريعةً، كما هي الكلمة منه شريعةٌ ورسالة. حذار الخلط بين الكفر والإسلام وهذا ما نريد أن نثيره في حركة العاملين في سبيل الله، في خط الدعوة إليه، أو الجهاد ضد الكفر أو الانحراف، وذلك أن يلتزموا خط الاستقامة في الفكر، أمام عوامل الانحراف المتنوّعة التي تحاول أن تتجه بالفكر الإسلامي، إلى خطوط كافرة أو قريبة من خط الكفر، تحت واجهات غائمة لا تملك من عناصر الأصالة والوضوح الشيء الكثير، بل تثير بدلاً من ذلك الكثير من الشكوك والشبهات التي تخضع لكثير من أساليب الالتواء والانحراف، وذلك في ما يحاول العابثون من الخلط بين الكفر والإسلام، في مزيج من الأفكار التي تحمل مضمون الكفر في إطار الإسلام. إنَّ عليهم الانتباه إلى ذلك بدقّة وحذر، لئلا ينحرفوا من حيث يريدون الاستقامة، فيعطوا الانحراف قداسة الإسلام. وهذا ما وقع فيه بعض العاملين تحت تأثير المتغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي فرضت نفسها على الساحة الإسلامية بدخول بعض التيارات الكافرة والمنحرفة في حركة الواقع، حيث كان لتلك التيارات تأثير على فكر العاملين وطريقتهم في فهم الواقع والتحرك معه، فأحدث ارتباكاً وتعقيداً في حركتهم، وأدخل بعض المفاهيم الكافرة، في صلب منظومة المفاهيم الإسلامية...
الانسجام بين الفكر والأسلوب: وكما هو الحال في خط الفكر ومضمونه، لا بد من التزام خط الاستقامة في المنهج والأسلوب، باعتماد الأحكام الشرعية في أسلوب العمل، ومنهج التحرك، لأنه من الممكن أن يتأثر العاملون بأساليب العمل، ومناهج تفكير التحرك التي يستخدمها الكافرون والضالون في مساعيهم للسيطرة على الواقع عملياً، ومقدرتهم بفضل ذلك على إخضاع الأجواء لأساليبهم ونهجهم في العمل. وهذا ما يفرض على القيادات الفاعلة أن تخطط للتحرك بطريقة تحقق الانسجام بين الفكر والأسلوب، ليعينوا العاملين على معرفة الخط المستقيم في الوسائل، كما يعرفون الخط المستقيم في الغايات، لأن الجهل يدفع الناس إلى الضلال باسم الهدى فيتجاوزون الخطوط المرسومة لهم من قبل الله الذي يراقبهم في معاناتهم في سبيل المعرفة والممارسة، أو تقصيرهم فيه، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء من سرّهم وعلانيتهم، ولا حجة لهم في تبرير ما يعملون أمامه كما يفعلون أمام الآخرين الذين يجهلون واقع الأمور، وحقائق الأشياء...