اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (112)

قوله تعالى : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } الآية .

لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله " فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ " وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال ، سواء كان مختصَّا به ، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع ، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا .

قال ابنُ الخطيب : وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم ، وهو أنَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لا يقبلُ القسمة في العرض ، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس ، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ .

وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية .

فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه ، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لكل واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين ، والوقوفُ عليه صعبٌ ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة ، وبتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة ، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ- رضي الله عنه- : ما نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم- في جميع القرآن آية أشق من هذه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " شيبَّني هُود وأخواتها " {[19045]} وروى عن بعضهم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت لهُ : روي عنك أنك قلت : " شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها " فقال : نَعَمْ " قلت : وبأي آية ؟ فقال : قوله : " فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ " {[19046]} .

قوله : { كَمَآ أُمِرْتَ } الكافُ في محلِّ النصب ، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ : أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها . وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر .

واستفعل هنا للطَّلب ، كأنه قيل : اطلب الإقامة على الدِّين ، كما تقول : استغفر أي : اطلب الغفران .

قوله : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } في " مَنْ " وجهان ، أحدهما : أنَّهُ منصوب على المفعول به ، كذا ذكره أبو البقاء{[19047]} ويصير المعنى : استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك ، وفي هذا المعنى نبوٌّ عن ظاهر اللفظ .

والثاني : أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في " اسْتَقمْ " ، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف ، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 25 ] ، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفردات ، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ ، وليستقم من تاب مَعَكَ ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر .

وقال الواحدي : محلها ابتداء تقديره : ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ .

فصل

معنى الآية : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } على دين ربِّك ، والعمل به ، والدُّعاء إليه ، كما أمرت ، { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي : مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا ، قال عمرُ بنُ الخطاب- رضي الله عنه- : الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي ، ولا تروغ روغان الثَّعلب{[19048]} .

روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي- رضي الله عنه- قال : " قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك ، قال : " قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ " {[19049]} .

فصل

هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة ، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه ، لقوله : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } ، ولمَّا " ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل ، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها ، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به .

قال ابنُ الخطيبِ : وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه ، لقوله تعالى- : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه .

ثم قال : { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي : لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل : لا تغلُوا فتزيدُوا على ما أمرت ونهيت . والطُّغيان : تجاوز الحدًّ . وقيل : لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ . وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما- : " تواضعوا لله ولا تتكبروا على أحد " {[19050]} { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ العامَّة " تَعْمَلُونَ " بالتَّاء " جرياً على الخطابِ المتقدم .

وقرأ الحسن والأعمش{[19051]} وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة ، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .


[19045]:أخرجه الترمذي في "الشمائل" رقم (41) وأبو يعلى (2/184) رقم (88) والبغوي في "شرح السنة" (7/375) والطبراني في "المعجم الكبير" (22/123) رقم (318) من حديث أبي جحيفة. وله شاهد من حديث أبي بكر: أخرجه أبو يعلى (1/12) رقم (107) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/37) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ورواه أبو يعلى إلا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر. وله شاهد آخر من حديث ابن عباس: أخرجه الترمذي (3293) والحاكم (2/476) وصححه.
[19046]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/578) وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان.
[19047]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/47.
[19048]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/404).
[19049]:أخرجه مسلم 1/65 كتاب الإيمان باب جامع أوصاف الإسلام (62/38). وأخرجه أحمد في المسند 3/413 وابن ماجه 2/314 بزيادة في آخره: قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه ثم قال: هذا (3972) والترمذي بالزيادة المذكورة 4/524-525 (2410). وقال: هذا حديث صحيح. وقد روي عن غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي.
[19050]:ذكره الرازي في "تفسيره" (18/57).
[19051]:ينظر: المحرر الوجيز 3/212 والبحر المحيط 5/268 والدر المصون 4/144.