نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (112)

فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب كما جرت بذلك السنة الإلهية وأن الجزاء بالأعمال كلها لا بد منه { فاستقم } أي أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلاّ نفسك وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء ، ومن استقام استقيم له .

ولما كان من المقطوع به أن الآمر له صلى الله عليه وسلم مَن له الأمر كله ، بني للمفعول قوله : { كمآ أمرت } أي كما استقام إخوانك من الأنبياء في جميع الأصول والفروع سواء كان في نفسك أو في تبليغ غيرك معتدلاً بين الإفراط والتفريط ولا يضيق{[40230]} صدرك من استهزائهم وتعنتهم واقتراحهم للآيات وإرادتهم أن تترك بعض ما يوحى إليك من التشنيع عليهم والعيب لدينهم بل صارحهم بالأمر واتركهم وأهواءهم ، نحن ندبر الأمر كما نريد على حسب{[40231]} ما نعلم .

ولما كان الفاصل بين المعطوف و{[40232]} المعطوف عليه يقوم مقام تأكيد الضمير المستتر ، عطف عليه قوله : { ومن } أي وليستقم{[40233]} أيضاً من { تاب } عن الكفر مؤمناً { معك } على ما أمروا تاركين القلق من استبطائهم للنصرة كما روى البخاري وابو داود والنسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة{[40234]} فقلنا : ألا تدعو الله لنا ، فقعد وهو محمر وجهه فقال : كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار{[40235]} فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين ، وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو{[40236]} عصب وما يصده ذلك عن دينه{[40237]} والله ليتمن الله{[40238]} هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد ولا أشق من هذه الآية . والاستقامة : الاستمرار في جهة واحدة .

ولما كانت وسطاً بين إفراط وتفريط وكان التفريط لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر ، وهو في الأغلب يورث انكسار{[40239]} النفس واحتقارها والخوف من الله ، وكان الإفراط يورث إعجاباً ، وربما أفضى بالإنسان إلى ظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين ، طوى التفريط ونهى عن الإفراط فقال : { ولا تطغوا } أي تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً ، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره ، والدين متين لن يشاده أحد إلا غلبه ، فقد رضي منكم سبحانه لاقتصاد في العمل مع حسن المقاصد ، ويجوز أن يكون المعنى : ولا تبطركم النعمة فتخرجكم عن طريق الاستقامة يمنة أو يسرة .

ولما نهي عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً ، فأفهم النهي عن التفريط ، {[40240]}وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب الأولى ، على ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرط منزلة المنكر{[40241]} فقال : { إنه بما تعملون } قدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار { بصير* } ومادة " طغى " واوية ويائية بكل ترتيب تدور على مجاوزة الحد مع العلو ، فالغطاء : ما ستر به الشيء عالياً عليه ، ولا يكون ساتراً لجميعه إلا إذا فضل عنه فتجاوز حده ، وغطى الليل - إذا غشي ، وكل شي ارتفع فهو غاط . وطغى السيل - إذا جاء بماء كثير ، والبحر{[40242]} : هاجت أمواجه ، والطغيان : مجاوزة الحد{[40243]} في العصيان ، والغائط والغيط : المطمئن من الأرض ، لأن{[40244]} ما كان كذلك وكانت أرضه طيبة كانت لا تزال ريّاً فيعلو ما نبت فيها ويخصب فيتجاوز الحد في{[40245]} ذلك ، ومنه الغوطة - لموضع بالشام كثير الماء والشجر .


[40230]:في ظ: لا يضيع.
[40231]:في ظ: حسن.
[40232]:زيد من ظ ومد.
[40233]:في ظ: لتستقم.
[40234]:سقط من مد.
[40235]:في ظ: بالميشار.
[40236]:من صحيح البخاري 510، وفي مد "و".
[40237]:زيد ما بين الحاجزين من مد والصحيح.
[40238]:سقط من مد.
[40239]:في ظ: لكساد.
[40240]:من ظ ومد، وفي الأصل: لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقارها والخوف من الله وكان الإفراط يورث إعجابا وربما أفضى بالإنسان إلى أظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين طوى التفريط نهى عن الإفراط ـ وقد مر آنفا.
[40241]:من ظ ومد، وفي الأصل: لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقارها والخوف من الله وكان الإفراط يورث إعجابا وربما أفضى بالإنسان إلى أظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين طوى التفريط نهى عن الإفراط ـ وقد مر آنفا.
[40242]:في ظ: الحب ـ كذا.
[40243]:سقط من ظ.
[40244]:من ظ ومد، وفي الأصل: لا.
[40245]:سقط من مد.