قوله تعالى : { حتى إذا جاءنا } قرأ أهل العراق غير أبي بكر :{ جاءنا } على الواحد يعنون الكافر ، وقرأ الآخرون : { جاءانا } ، على التثنية يعنون الكافر وقرينه قد جعلا في سلسلة واحدة . { قال } الكافر لقرينه الشيطان :{ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر : القمران ، ولأبي بكر وعمر : العمران . وقيل : أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول أصح ، { فبئس القرين } قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار .
ثم بين - سبحانه - ما يكون بين هذا الإِنسان الكافر وبين قرينه من الشياطين يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { حتى إِذَا جَآءَنَا قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين } .
أى : لقد استمر هذا المعرض عن ذكر الله فى غيه . ومات على ذلك حتى إذا جاءنا يوم القيامة لحساب والجزاء ، { قَالَ } لقرينه الذى صده عن طريق الحق . .
{ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } أى : أتمنى أن تكون المسافة التى بينى وبينك من البعد والمفارقة ، كالمسافة التى بين المشرق والمغرب .
فالمراد بالمشرقين المشرق والمغرب فعبر - سبحانه - بالمشرق على سبيل التغليب لأحدهما على الآخر .
{ فَبِئْسَ القرين } أى : فبئس القرين أنت - أيها الشيطان - فالمخصوص بالذم محذوف .
ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون :
( حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين ) !
وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة . ويطوى شريط الحياة السادرة ، ويصل العمي ( الذين يعشون عن ذكر الرحمن )إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار . هنا يفيقون كما يفيق المخمور ، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال ؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال ، وأوهمه أنه الهدى !
وقاده في طريق الهلاك ، وهو يلوح له بالسلامة ! ينظر إليه في حنق يقول : ( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) ! يا ليته لم يكن بيننا لقاء . على هذا البعد السحيق !
ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله : ( فبئس القرين ) !
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتّىَ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظّلَمْتُمْ أَنّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : حتى إذَا جاءَنا فقرأته عامة قرّاء الحجاز سوى ابن محيصن ، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين «حتى إذَا جاءانا » على التثنية بمعنى : حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِيَ عن ذكر الرحمن ، وقرينه الذي قيض له من الشياطين . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن : حتى إذَا جاءَنا على التوحيد ، بمعنى : حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أنّ في خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا ، الكفاية للسامع عن خبر الاَخر ، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الاَخر ، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : حتى إذَا جاءَانا هو وقرينه جميعا .
وقوله : يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرقَيْنِ يقول تعالى ذكره : قال أحد هذين القرينين لصاحبه الاَخر : وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين : أي بُعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب اسم أحدهما على الاَخر ، كما قيل : شبه القمرين ، وكما قال الشاعر :
أخَذْنا بآفاقِ السّماءِ عَلَيْكُمُ *** لنَا قَمَرَاهَا والنّجُومُ الطّوَالِعُ
فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنّا والعِرَاقُ لنَا *** والمَوْصِلانِ وَمِنّا مِصْرُ والحَرَمُ
يعني : الموصل والجزيرة ، فقال : الموصلان ، فغلب الموصل .
وقد قيل : عنى بقوله بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ : مشرق الشتاء ، ومشرق الصيف ، وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق ، وفي الصيف من مشرق غيره وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين ، كما قال جلّ ثناؤه : رَبّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبّ المَغْرِبَينِ .
وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن سعيد الجريري ، قال : بلغني أن الكافر إذا بُعث يوم القيامة من قبره ، سفعَ بيده الشيطان ، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار ، فذلكم حين يقول : يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين ، فبئس القرين . وأما المؤمن فيوكّل به مَلك فهو معه حتى قال : إما يفصل بين الناس ، أو نصير إلى ما شاء الله .
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وقتادة والزهري والجحدري : «حتى إذا جاءانا » على التثنية ، يريد العاشي والقرين ، قاله سعيد الجريري وقتادة . وقرأ أبو عمرو والحسن وابن محيصن والأعرج وعيسى والأعمش وعاصم{[10209]} وحمزة والكسائي : «جاءنا » يريد العاشي وحده . وفاعل : { قال } هو العاشي .
وقوله : { بعد المشرقين } يحتمل ثلاثة معان ، أحدهما : أن يريد بعد المشرق من المغرب ، فسماهما مشرقين ، كما يقال : القمران والعمران ، قال الفرزدق :
لما قمراها والنجوم الطوالع{[10210]} . . . والثاني : أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم ، ومشرقها في أقصر يوم ، فكأنه أخذ نهايتي المشارق . والثالث : أن يريد { بعد المشرقين } من المغربين ، فاكتفى بذكر { المشرقين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.