قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } . أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] أي : إذا أردت القراءة وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة ، لكن علمنا ببيان السنة ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) . وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي ، أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري ، أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم ، أنا أبو الموجه أنا عبدان ، أنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد ، ومسح على خفيه .
وقال زيد بن أسلم : معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم . وقال بعضهم : هو أمر على طريق الندب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارتها وإن كان على طهر ، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات ) .
وروي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة .
وقال بعضهم : هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، فإن له أن يفعل بعد الحدث ما له من الأفعال غير الصلاة .
أخبرنا أبو القاسم الحنفي ، أنا أبو الحارث الطاهري ، أنا الحسن بن محمد بن حكيم ، أنا أبو الموجه ، أنا صدقة ، أنا ابن عيينة ، عن عمرو ابن دينار سمع سعيد بن الحويرث ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجع من الغائط ، فأتي بطعام ، فقيل له : ألا تتوضأ ؟ فقال : لم أصلي فأتوضأ . قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } . وحد الوجه من منابت شعر الرأس ، إلى منتهى الذقن طولاً ، وما بين الأذنين عرضاً ، يجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب أيضاً إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشارب ، والعذار ، والعنفقة . وإن كانت كثيفة وأما العارض واللحية ، فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها . وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن ؟ فيه قولان : أحدهما : لا يجب . وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه ، كذلك النازل عن حد الوجه في وجوب غسله . والقول الثاني : يجب إمرار الماء على ظاهره ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع به المواجهة من هذا العضو ، ويقال في اللغة : بقل وجه فلان ، وخرج وجهه ، إذا نبتت لحيته .
قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } . أي : مع المرافق ، كما قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي : مع أموالكم ، وقال : { من أنصاري إلى الله } [ آل عمران : 52 ] وسورة [ الصف : 14 ] ، أي : مع الله . وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين ، وفي الرجل يجب غسل الكعبين ، وقال الشعبي ، ومحمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرجل ، لأن حرف " إلى " للغاية والحد ، فلا يدخل في المحدود ، قلنا : ليس هذا بحد ولكنه بمعنى " مع " كما ذكرنا . وقيل : الشيء إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية ، وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل . كقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] ، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار . قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } . اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس ، قال مالك : يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح جميع الوجه في التيمم ، وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرأس ، وعند الشافعي رحمه الله : يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح . واحتج من أجاز مسح بعض الرأس مما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا يحيى بن حسان ، عن حماد بن زيد و ابن علية ، عن أيوب السختياني عن ابن سيرين ، عن عمرو بن وهب الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته ، وعلى عمامته وخفيه ، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث ، وبه قال الأوزاعي وأحمد ، وإسحاق . ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلاً من مسح الرأس . وقال في حديث المغيرة : إن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية ، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب .
قوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } . قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب ، وحفص ، ( وأرجلكم ) بنصب اللام ، وقرأ الآخرون ( وأرجلكم ) بالخفض ، فمن قرأ ( وأرجلكم ) بالنصب ، فيكون عطفاً على قوله : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } أي : واغسلوا أرجلكم ، ومن قرأ بالخفض ، فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على الرجلين . وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ، ومسحتان . ويروى ذلك عن عكرمة ، و قتادة . وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، قال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ، ويلغي ما كان مسحاً ؟ وقال محمد بن جرير الطبري : يتخير المتوضئ بين المسح على الخفين ، وبين غسل الرجلين . وذهب جماعة من أهل العلم من الصحابة ، والتابعين ، وغيرهم : إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ ، لا على موافقة الحكم . كما قال تبارك وتعالى : { عذاب يوم أليم } فالأليم صفة العذاب ، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة ، وكقولهم : " جحر ضب خرب " فالخرب نعت للحجر ، وأخذ إعراب الضب للمجاورة . والدليل على وجوب غسل الرجلين ما أخبرنا أبو سعيد أحمد ابن محمد بن العباس الحميدي الخطيب ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، أنا يحيى بن محمد بن يحيى ، أنا الحجي ومسدد قالا : أخبرنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادانا بأعلى صوته : " ويل للأعقاب من النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله ، أنا معمر ، حدثني الزهري ، عن عطاء بن زيد ، عن حمران مولى عثمان رضي الله عنه قال : أن عثمان رضي الله عنه توضأ ، فأفرغ على يديه ثلاثاً ، ثم تمضمض واستنشق ، واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرافق ثلاثاً ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثاً ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين ، لا يحدث نفسه فيهما بشيء ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقال بعضهم : أراد بقوله { وأرجلكم } المسح على الخفين كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه ، وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كان العمامة على رأسه ، ويده في كمه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عامر ، عن عروة ، ابن المغيرة ، عن أبيه رضي الله عنهما قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : أمعك ماء ؟ فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته ، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء ، فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة ، فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما .
قوله تعالى : { إلى الكعبين } . فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانب القدمين ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم ، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين . وفرائض الوضوء : غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ، ومسح الرأس ، واختلف أهل العلم في وجوب النية : فذهب أكثرهم إلى وجوبها ، لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة ، وهو قول الثوري ، واختلفوا في وجوب الترتيب ، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى ، فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق رحمهم الله ، ويروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه . واحتج الشافعي بقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ، [ البقرة : 158 ] وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا ، وقال : ( نبدأ بما بدأ الله به ) ، وكذلك هاهنا ، بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلاً بما بدأ الله تعالى بذكره . وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنة ، وقالوا الواوات المذكورة في الآية للجمع لا للترتيب ، كما قال الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] الآية ، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمين ، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمين ، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتباً كما ذكر الله تعالى ، وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] ، لما قدم ذكر الركوع على السجود ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك ، فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة ، كذلك الترتيب هنا .
قوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } ، أي : اغتسلوا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة ، بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله .
قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ، فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب .
قوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم } ، بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم .
قوله تعالى : { من حرج } ، ضيق .
قوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } ، من الأحداث والجنابات والذنوب .
قوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } . قال محمد بن كعب القرظي : إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء . كما قال الله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] ، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران : أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ، ويديه ، ورجليه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران مولى عثمان ، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوماً ، فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من امرئ مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها } .
قال مالك : أراه يريد هذه الآية { أقم الصلاة لذكري } ، ورواه ابن شهاب ، وقال عروة : الآية { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } . [ البقرة : 159 ] .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا يحيى بن بكير ، أنا الليث ، عن خالد عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر قال : رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد ، فتوضأ ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل ) .
وبعد أن بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم . وفي ما يتعلق بما يحل لهم من النساء . أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء ، والغسل . والصلاة . وأمرهم بالمحافظة على شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - افتتح السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية .
فقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } طلب الله - تعالى - من عباده أن يفوا بعهد العبودية . فكأنما قيل : يا إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإِحسان . فقال - تعالى - : نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا بالوفاء بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية .
ولما كان أعظم الطاعات بعد الإِيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ - سبحانه - بذكر فرائض الوضوء فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .
والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها ، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة المسبب ، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائماً على ذكر من إرادتها ودم الإِهمال في أدائها .
وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة ، وهذا باطل بالإجماع .
وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك ، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها .
قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم { الذين آمَنُواْ } من غير اختصاص بالمحدثين . لكن الإِجماع على خلاف ذلك ، فقد أخرج مسلم وغيره " أن النبي صلى الله عليه سلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه . فقال صلى الله عليه وسلم : " عمداً فعلته يا عمر " " .
يعني : بيانا للجواز . فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال .
ولأنه اشتراط الحدث في البدل وهو التيمم ، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا .
وقوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } صريح في البدلية .
ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضأون لكل صلاة ، ورد بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد : " من توضأ على طهر كتب الله - تعالى - له عشر حسنات " .
وقوله : { فاغسلوا } من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم : مع الدلك .
وقوله : { وُجُوهَكُمْ } جمع وجه . وهو مأخوذ من المواجهة .
وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضاً .
والمرافق : جمع مرفق - كمنبر ومجلس - وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع .
والكعبين : تثنية كعب . وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر ، فاغسلوا وجوهكم ، أي : فأسيلوا الماء على وجوهكم ، وأسيلوه أيضاً على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الالمام بأهمها فنقول :
أولا : أخذ جمهور الفقهاء من قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا } إلخ أن الوضوء لابد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أي شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها ، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات " وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء ، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله ، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة .
وقال الأحناف : إن النية في الوضوء ليست بفرض . لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها .
وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة ، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد ، وليست شرطاً في الوسيلة وهي الوضوء .
وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة ، ومسح ما يجب مسحه منها ، وللمسلم أن يصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل . قالوا : ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها .
ثانيا : قوله { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه .
فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه ، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل غسل الوجه .
وقال بعض الفقهاء : المضمضمة والاستنشاق داخلان في الغسل .
ثالثاً : أخذ كثير من الفقهاهء من قوله - تعالى - { إِلَى المرافق } . . و { إِلَى الكعبين } أن المرافق داخله مع اليدين في وجوب الغسل ، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل .
قالوا : لأن { إلى } هنا بمعنى مع ، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبوية قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد ، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل . وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد .
ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا ، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك ، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين .
وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين .
قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لما رواه الدارقطني عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " .
ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب ، لأن الغاية من قوله : { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول ، ولا وجوب مع الاحتمال .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله : قوله { إِلَى المرافق } تفيد معنى الغاية مطلقا . فأما دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل . فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } لأن الإِعسار علة الإِنظار . وبوجود الميسرة تزول العلة . ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم . ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظة القرآن من أوله إلى آخره - لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله - تعالى - : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } لوقووع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله .
وقوله { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل . وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه " .
رابعا : أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء ، لقوله - تعالى - { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح .
فال المالكية : يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط ، وتبعهم في ذلك الحنابلة .
وقال الشافعية : يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس .
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية . فقال المالكيبة والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون - أيضاً - زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس ، ويكون البعض داخلا في ذلك .
وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض ، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين ، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته " قالوا : والناصية تساوي ربع الرأس .
قال بعض العلماء : والسنة الصحيحة وردت بالبيان . وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقص العمامة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي التي استمر عليها صلى الله عليه وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي يداوم عليها . وهي مسح الرأس مقبلا ومدبراً . وإجراء غيرها في بعض الأحوال .
خامساً : قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ } وردت فيه قراءتان متواترتان .
إحداهما : بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص الكسائي ويعقوب .
والثانية : بكسر اللام وهي قراءة الباقين .
أما قراءة النصب فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على قوله { وُجُوهَكُمْ } أو هو منصوب بفعل مقدر أي : وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وأما قراءة الجر فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على { بِرُؤُوسِكُمْ } .
قال القرطبي ما ملخصه : فمن قرأ بالنصب جعل العامل " اغسلوا " وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح . وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث . وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته . " ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء " ثم إن الله حدهما فقال : { إِلَى الكعبين } كما قال في اليدين { إِلَى المرافق } فدل على وجوب غسلهما .
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء . فقال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم . وتعلق الطبري بقراءة الخفض - أي قال بمسح الرجلين .
ثم قال : وقد قيل : إن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } بقراءة الخفض - معطوف على اللفظ دون المعنى - أي لفظ الرءوس - وهذا أيضاً يدل على الغسل ، فإن المراعي المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب . وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال - تعالى - { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } بالجر لأن النحاس هو الدخان .
ثم قال : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين السغل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم
" ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله . ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب . ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب . ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح . إذ لا مدخل بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح .
ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما . وحسبك بهذا احجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله و { وَأَرْجُلَكُمْ } وقوله { فاغسلوا } والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما . تقول : أكلت الخبز واللبن . أي : وشربت اللبن .
وقد عقد الإِمام ابن كثير فصلا أورد فيه - عند تفسيره لهذه الآية - كثيراً من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين ، وجعل عنوانه : " ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لابد منه " .
ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وعن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْلَ رَجل مثل الدرهم لم يغسله فقال : " ويل للأعقاب من النار " .
ثم قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف .
ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة ، للإشارة إلى وجوب عدم الإِسراف في الماء . فقد قال : فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح ؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها : فكانت مظنة للإِسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها .
وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله : لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفي الغليل . والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو ، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم ، كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً .
وعلفتها تبنا وماء باردا . ونظائره كثيرة .
ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإِيجاز والاختصار . وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك - الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جداً . على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود .
هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر . وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء .
سادساً : أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أي : غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين .
وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية - كما سبق أن أشرنا - كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا الترتيب في القرآن فيجب التزامه . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم .
وقال الأحناف : الترتيب ليس فرضاً ، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا .
كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه . وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة .
والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبي لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئأ بأوله . أما إذا قطع المتوضئ وضوء لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظارهة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه .
تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها . وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبة فقال - تعالى - { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .
والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة . وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر ، فيقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، وهما جنب ، ورجال ونساء جنب . . واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة ، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من السملم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر .
وقوله { فاطهروا } أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق ، وتمسحوا برؤوسكم . وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، هذا إذا كنتم محدثين حدثاً أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر ، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا . أي : تغسلوا بالماء جميع بدنكم . لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو ، كان أمراً شاملا لتطهير جميع البدن ، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله - تعالى - في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها .
وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ولأنه - سبحانه - قد ذكر بعد هذه الحملة ما يحل محل الماء عند فقده .
والتعبير بقوله { فاطهروا } فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله ، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم ، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجنابة أو الحيض أو النفاس فيه انتعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإِنهاك ، وفيه كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث في الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ، ولأداء تكاليفه .
قال الفخر الرازي : والدلك غير واجب في الغسل . وقال مالك : الدلك واجب وحجة غيره أن قوله { فاطهروا } أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك . ثم قال : والشافعي قال : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل - ومثله في ذلك الإِمام مالك .
وقال أبو حنيفة - والحنابلة - هما : واجبان لأن الآية تقول { فاطهروا } وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم . وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها . وداخل الفم والأنف يمكن تطيرهما . فوجب بقاؤهما تحت النص . ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة " فقوله " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف . لأن داخله شعر . وقوله " وأنقوا البشرة " يدخل في الجلدة التي داخل الفم . وحجة الشافعي - ومالك قوله صلى الله عليه وسلم أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل ، وكل يبين ما يعمله .
ثم شرع - سبحانه - في بيان الأعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال - تعالى - : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } .
والمراد بالمرضى في قوله - تعالى - { وَإِن كُنتُم مرضى } المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقاً كأن يكون اسعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء .
وقوله { أَوْ على سَفَرٍ } في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضي وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر ، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا ، بخلافة في قوله - تعالى - في سورة البقرة : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإن المراد به هناك سفر القصر ، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية .
وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط } معطوف على ما قبله والغائط : من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .
وفي إسناد المجيء إلى واحد من مبهم من المخاطبين ، سمو في التعبير . حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به . وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب ، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء ، ويمجها الذوق السليم .
والمراد بالملامسة في قوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع : فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال : وهي كناية قرآنية أراد - سبحانه - أن يعلم الناس منها حسن التعبير ، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإِسلام وتعاليمه السامية .
وإلى هذا الرأي اتجه كثير من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو موسى .
وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والثوري فقد قالوا : لا ضوءو على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها . واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم .
واستدلوا - أيضاً - بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصوداً ، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد . وأيضاً فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله - تعالى -
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد ، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء .
وقد سار الإِمام الشافعي على هذا الرأي فقال : إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة .
ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد ، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإِمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء ، وكاذا إذا مسته بشهوة وتلذذ ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما .
وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع . والذي نراه أولى بالصواب في هذ المسألة ما قاله الإِمام مالك - رحمه الله - لأنه بني رأيه على وجود الشهوة وعدمها . والفاء في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ } يعودل لكل ما تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة .
والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } ما هو أعم من الوجود الحسي أي : أن قوله : " فلم تجدوا ماء " كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء .
وقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والمعنى : وإن كنتم - أيها المؤمنون - في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر ؛ أو كنتم محدثين حدثاً أصغر أو أكبر ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم ، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف ، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله ، أو كنتم في حاجة ماسة إليه ، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيداً طيبا بدلا من الماء ، فإن الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجميع ما عدا المرضي ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله . وعلى هذا الرأي يكون المراد بعدم الوجدان ، عدم الوجدان الحسي .
والتيمم لغة القصد . يقال تيممت الشيء إذا قصدته .
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .
وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره . وقيل يطلق على التراب فحسب .
والطيب : الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر .
وقوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } بيان لكيفية التيمم .
أي : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به ، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله ، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .
وقد استدل بعض الفقهاء بقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب .
ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز التراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض . متى كان طاهراً . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض . وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
قال القرطبي - بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك - " وإذا تقرر هذا فالعم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن تيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومكان الإِجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره " .
كما استدل الأحناف والشافعية بقوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير . والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين ، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التيمم ضربتان ضربة للوجه . وضربة للذراعين إلى المرفقين " .
ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين . هذا ، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسينا لقوله - تعالى - في سورة النساء : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده ، ورعايته لمصالحهم فقال - تعالى { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
أي : ما يريد الله - تعالى - بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة ، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه ، ما يريد - سبحانه - بذلك { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ضيق ومشقة وعسر ، ولكن يريد بذلك ليطهركم .
أي : ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ ، ويريد بذلك أيضاً { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية ، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته ، لأنكم متى شكرتموه زادكم من فضله ومننه .
وعبر - سبحانه - عن نفي الحرج بنفي إرادته ، مبالغة في بيان رأفته - سبحانه - بعباده ، ورعايته لمصالحهم . فكأنه - سبحانه - يقول : ما كان من شأن الله - تعالى - مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج .
وقوله { لِيَجْعَلَ } يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإِِيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله : { مِّنْ حَرَجٍ } وتكون { من } زائدة لتأكيد النفي وقوله { عَلَيْكُم } متعلق بالجعل . ويحتمل أن يكون بمعنى التصير فيكون قوله { عَلَيْكُم } هو المفعول الثاني ، وقوله : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته - سبحانه - بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله .
وقريب من معنى هذه الجملة قوله - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله تعالى - { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا الدخول في الصلاة ، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا ، وما يجبع أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارو أو أداء ما علهيم من تكاليف ، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم ، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها .
وفي ظل الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء يجيء ذكر الصلاة ، وأحكام الطهارة للصلاة .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤوسكم ، وأرجلكم إلى الكعبين . وإن كنتم جنبا فاطهروا . وإن كنتم مرضى ، أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . .
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء . وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام . . إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد ، ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه . . إنما هو يجيء في موضعه من السياق ، ولحكمته في نظم القرآن . .
إنها - أولا - لفتة إلى لون آخر من الطيبات . . طيبات الروح الخالصة . . إلى جانب طيبات الطعام والنساء . . لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله ، في جو من الطهر والخشوع والنقاء . . فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة ؛ استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان . . والتي بها يتكامل وجود " الإنسان " .
ثم اللفتة الثانية . . إن إحكام الطهارة والصلاة ؛ كأحكام الطعام والنكاح ؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة ؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب . . . كبقية الأحكام التالية في السورة . . . كلها عبادة لله . وكلها دين الله . فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا - في الفقة - على تسميته " بأحكام العبادات " ، وما اصطلح على تسميته " بأحكام المعاملات " . .
هذه التفرقة - التي اصطنعها " الفقة " حسب مقتضيات " التصنيف " و " التبويب " - لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ، ولا في أصل الشريعة الإسلامية . . إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء . وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه ؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع . لا ، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر . والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء .
كلها " عقود " من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء . وكلها " عبادات " يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله . وكلها " إسلام " وإقرار من المسلم بعبوديته لله .
ليس هنالك " عبادات " وحدها و " معاملات " وحدها . . إلا في " التصنيف الفقهي " . . وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي . . كلها " عبادات " و " فرائض " و " عقود " مع الله . والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله !
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني ؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة . . . ) . .
إن الصلاة لقاء مع الله ، ووقوف بين يديه - سبحانه - ودعاء مرفوع إليه ، ونجوى وإسرار . فلا بد لهذا الموقف من استعداد . لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي . ومن هنا كان الوضوء - فيما نحسب والعلم لله - وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية :
غسل الوجه . غسل الأيدي إلى المرافق . ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين . . وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيره . . أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به ؟ أم هي تجزى ء على غير ترتيب ؟ قولان . .
هذا في الحدث الأصغر . . أما الجنابة - سواء بالمباشرة أو الاحتلام - فتوجب الاغتسال . .
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء ، والغسل ، أخذ في بيان حكم التيمم . وذلك في الحالات الآتية : حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق . .
وحالة المريض المحدث حدثا أصغر يقتضي الوضوء ، أو حدثا أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه . .
وحالة المسافر المحدث حدثا أصغر أو أكبر . .
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . . والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه . . والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولا أو تبرزا .
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله : ( أو لامستم النساء ) . . لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة . .
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث - حدثا أصغر أو أكبر - الصلاة ، حتى يتيمم . . فيقصد صعيدا طيبا . . أي شيئا من جنس الأرض طاهرا - يعبر عن الطهارة بالطيبة - ولو كان ترابا على ظهر الدابة ، أو الحائط . فيضرب بكفيه ، ثم ينفضهما ، ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين . . ضربة للوجة واليدين . أو ضربتين . . قولان . .
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) . . أهو مجرد الملامسة ؟ أم هي المباشرة ؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة ؟ خلاف . .
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم ؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء ؟ خلاف . .
ثم . . هل برودة الماء من غير مرض ؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم . . الأرجح نعم . . وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب :
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم ، لعلكم تشكرون ) . . والتطهير حالة واجبة للقاء الله - كما أسلفنا - وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا . فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه ؛ ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء ، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء . ذلك أن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت الناس ، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف . إنما يريد أن يطهرهم ، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة ؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة ، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها . .
فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم .
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا :
( ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . .
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء . فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ، ليقول متفلسفة هذه الأيام : إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات ، كما كان العرب البدائيون ! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة ! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد ؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه . وجانب التطهر الروحي أقوى . لأنه عند تعذر استخدام الماء ، يستعاض بالتيمم ، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى . . وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات ، وجميع البيئات ، وجميع الأطور ، بنظام واحد ثابت ، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطور ؛ في صورة من الصور ، بمعنى من المعاني ؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال .
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله ؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء .
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها ، عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة ؛ وإزالة كل عائق يمنع منها . . فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان . . كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة ؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية . إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر ، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها ؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء . . لقاء العبد بربه . . وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب . . إنها نداوة القلب ، واسترواح الظل ، وبشاشة اللقاء . .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطّهّرُواْ وَإِن كُنتُم مّرْضَىَ أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلََكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } . .
يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر الصلاة ، فاغسلوا وجوهكم بالماء ، وأيديكم إلى المرافق .
ثم اختلف أهل التأويل في قوله : إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ أمراد به كلّ حال قام إليها ، أو بعضها ؟ وأيّ أحوال القيام إليها ؟ فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه من أنه معنىّ به بعض أحوال القيام إليها دون كلّ الأحوال ، وأن الحال التي عني بها حال القيام إليها على غير طهر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : سئل عكرمة عن قول الله : إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيكُمْ إلى المَرَافقِ فكلّ ساعة يتوضأ ؟ فقال : قال ابن عباس : لا وضوء إلاّ من حدث .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت مسعود بن عليّ الشيباني ، قال : سمعت عكرمة ، قال : كان سعد بن أبي وَقّاص يصلي الصلوات بوضوء واحد .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن مسعود بن عليّ ، عن عكرمة ، قال : كان سعد بن أبي وقاص يقول : صلّ بطهورك ما لم تحدث .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : أخبرنا سليم بن أخضر ، قال : أخبرنا ابن عون عن محمد ، قال : قلت لعبيدة السلماني : ما يوجب الوضوء ؟ قال : الحدث .
حدثنا حميد ين مسعدة ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن واقع بن سحبان ، عن يزيد ابن طريف أو طريف بن يزيد أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطىء دجلة ، فتوضئوا فصلوا الظهر ، فلما نودي بالعصر ، قام رجال بتوضئون من دجلة ، فقال : إنه لا وضوء إلاّ على من أحدث .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن طريف بن زياد أو زياد بن طريف عن واقع بن سحبان : أنه شهد أبا موسى صلّى بأصحابه الظهر ، ثم جلسوا حلقا على شاطىء دجلة ، فنُودي بالعصر ، فقام رجال يتوضئون ، فقال أبو موسى : لا وضوء إلاّ على من أحدث .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدث عن واقع بن سحبان ، عن طريف بن يزيد أو يزيد بن طريف قال : كنت مع أبي موسى بشاطىء دجلة فذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن واقع بن سحبان ، عن طريف بن يزيد أو يزيد بن طريف عن أبي موسى ، مثله .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا أبو خالد ، قال : توضأت عند أبي العالية الظهر أو العصر ، فقلت : أصلي بوضوئي هذا ، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العتمة ؟ قال أبو العالية : لا حرج . وعلّمنا : إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا ابن هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : الوضوء من غير حدث اعتداء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن سعيد ، مثله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، قال : رأيت إبراهيم صلّى بوضوء واحد ، الظهر والعصر والمغرب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : كنت مع يحيى ، فأصلي الصلوات بوضوء واحد ، قال : وإبراهيم مثل ذلك .
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، قال : سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ، فقال : لا بأس به ما لم يحدث .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك ، قال : يصلي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال حدثنا زائدة عن الأعمش ، عن عمارة ، قال : كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أساط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ يقول : قمتم وأنتم على غير طهر .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن الأسود : أنه كان له قَعْبٌ قدر رِيّ رجل ، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها .
حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، قال : أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي ، قال : حدثنا الفضل بن المبشر ، قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين . فقلت : أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع .
وقال آخرون : معنى ذلك : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني من سمع مالك بن أنس ، يحدث عن زيد بن أسلم ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ قال : يعني : إذا قمتم من النوم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس ، أخبره عن زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاة فاغْسِلُوا وُجُوهُكُمْ قال : فقال : قمتم إلى الصلاة من النوم .
وقال آخرون : بل ذلك معنىّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن مسعود بن عليّ ، قال : سألت عكرمة ، قال : قلت يا أبا عبد الله ، أتوضأ لصلاة الغد ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر فأصلي ؟ قال : كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت مسعود بن عليّ الشيباني ، قال : سمعت عكرمة يقول : كان عليّ رضي الله عنه يتوضأ عند كلّ صلاة ، ويقرأ هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم . . . الاَية .
حدثنا حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا أزهر ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكلّ صلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس ، قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تجوّز خفيفا ، فقال : هذا وضوء من لم يُحْدِث .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال ، قال : رأيت عليّا صلّى الظهر ثم قعد للناس في الرّحْبة ، ثم أُتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال : هذا وضوء من لم يُحْدِثْ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أن عليّا اكتال من حُبْ فتوضأ وضوءا فيه تجوّز ، فقال : هذا وضوء من لم يُحْدِث .
وقال آخرون : بل كان هذا أمرا من الله عزّ ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به أن يتوضؤا لكلّ صلاة ، ثم نسخ ذلك بالتخفيف . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق قال : ثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازنيّ ، مازن بني النجار ، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر : أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة ، طاهرا كان أو غير طاهر ، عمن هو ؟ قال : حدثَتْنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب ، أن عبد الله بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة ، فشقّ ذلك عليه ، فأمر بالسواك ، ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث . فكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه ، فكان يتوضأ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال : ثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ، قال : قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر ، أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثَد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان عام الفتح ، صلّى الصلوات بوضوء واحد ، ومسح على خفيه ، فقال عمر : إنك فعلت شيئاٍ لم تكن تفعله قال : «عَمْدا فَعَلْتُهُ » .
8881حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محارب بن دثار ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم فتح مكة ، صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن محارب ، بن دثار ، عن سليمان بن بريدة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ ، فذكر نحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كلها بوضوء واحد ، فقال له عمر : يا رسول الله ، صنعت شيئا لم تكن تصنعه ؟ فقال : «عَمْدا فَعَلْته يا عمَرُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية ، عن سفيان ، عن محارب بن دثار ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ، فلما فتح مكة ، صلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد .
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن مسعر ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلّى صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد .
فإن ظنّ ظان أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة ، دلالة على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ، وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظنّ غير الصواب ، وذلك أن قول القائل : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا ، محتمل من وجوه لأمر الإيجاب والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق ، وإذ كان محتملاً ما ذكرنا من الأوجه ، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقية مدّعية . وقد أجمعت الحجة على أن الله عزّ وجلّ لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرض الوضوء لكلّ صلاة ، ثم نسخ ذلك ، ففي إجماعها على ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما قلنا من أن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك كان على ما وصفنا من إيثاره فعل ما ندبه الله عزّ ذكره إلى فعله وندب إليه عباده المؤمنين بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافقِ . . . الاَية ، وأن تركه في ذلك الحال التي تركه كان ترخيصا لأمته وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم ، إلاّ من حدَث يوجب نقض الطهر . وقد رُوي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن عامر ، عن أنس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بقعب صغير ، فتوضأ . قال : قلت لأنس : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ؟ قال : نعم . قلت : فأنتم ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد .
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن أبي غطيف ، قال : صليت مع ابن عمر الظهر ، فأتى مجلسا في داره ، فجلس وجلست معه ، فلما نُودي بالعصر دعا بوَضوء فتوضأ ، ثم خرج إلى الصلاة ، ثم رجع إلى مجلسه فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ ، فقلت : أسنة ما أراك تصنع ؟ قال : لا ، وإن كان وضوئي لصلاة الصبح كافيا للصلوات كلها ما لم أُحدث ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ تَوَضّأ على طُهْرٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ » ، فأنا رغبت في ذلك .
حدثني أبو سعيد البغداي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن هريم ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَوَضّأعلى طُهْرٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ » .
وقد قال قوم : إن هذه الاَية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه ، إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها ، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ ، فأذن له بهذه الاَية أن يفعل كلّ ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عدا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلّم عليه فلا يردّ علينا ، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة ، فقلنا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمك فلا تكلمنا ونسلم عليك فلا تردّ علينا قال : حتى نزلت آية الرخصة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .
اختلف أهل التأويل في حدّ الوجه الذي أمر الله بغسله ، القائم إلى الصلاة بقوله : إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فقال بعضهم : هو ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه ، منحدرا إلى منقطع ذقنه طولاً ، وما بين الأذنين عرضا . قالوا : فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين فليس من الوجه ولا غيره ، ولا أحبّ غسل ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء . قالوا : وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاء شعر اللحية والصدغين اللذين قد عطاهما عذر اللحية ، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر مجزىء عن غسل ما بطن منه من بشرة الوجه ، لأن الوجه عندهم هو ما ظهر لعين الناظر من ذلك فقابلها دون غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن معمر ، عن إبراهيم ، قال : يجزىء اللحية ما سال عليها من الماء .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة في تخليل اللحية ، قال : يجزيك ما مرّ على لحيتك .
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا زائدة ، عن منصور ، قال : رأيت إبراهيم يتوضأ ، فلم يخلل لحيته .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن سعيد الزبيدي ، عن إبراهيم ، قال : يجزيك ما سال عليها من أن تخللها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن يونس ، قال : كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا هشام ، عن الحسن ، أنه كان لا يخلل لحيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن هشام ، عن الحسن أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن ، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، قال : ليس غسل اللحية من السنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عيسى بن يزيد ، عن عمرو ، عن الحسن أنه كان إذا توضأ لم يبلغ الماء في أصول لحيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي ، قال : سألت إبراهيم أخلل لحيتي عند الوضوء بالماء ؟ فقال : لا ، إنما يكفيك ما مرّت عليه يدك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء ، فقال : قال المغيرة : قال إبراهيم : يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حجاج بن رشدين ، قال : حدثنا عبد الجبار بن عمر : أن ابن شهاب وربيعة توضئا ، فأمرّا الماء على لحاهما ، ولم أر واحدا منهما خلل لحيته .
حدثنا حدثنا أبو الوليد الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت سعيد بن عبد العزيز ، عن عرْك العارضين في الوضوء ، فقال : ليس ذلك بواجب ، رأيت مكحولاً يتوضأ فلا يفعل ذلك . .
حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشيّ ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : ليس عرك العارضين في الوضوء بواجب .
حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني إبراهيم بن محمد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : يكفيه ما مرّ من الماء على لحيته .
حدثنا حدثنا أبو الوليد القرشي ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن سليمان بن أبي زينب ، قال : سألت القاسم بن محمد كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت ؟ قال : لست من الذين يغسلون لحاهم .
حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا الوليد ، قال أبو عمرو : ليس عرك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء .
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بطن من الفم والأنف :
حدثنا حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لولا التلمظ في الصلاة ما مضمضت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك يقول : سئل عطاء ، عن رجل صلّى ولم يتمضمض قال : ما لم يسمّ في الكتاب يجزئه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الصباح ، عن أبي سنان ، قال : كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت هشاما ، عن الحسن ، قال : إذا نسي المضمضة والاستنشاق ، قال : إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته ، وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم وقتادة ، عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق ، فقال : يمضي في صلاته .
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن الأذنين ليستا من الوجه :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي ، قال : حدثنا هشيم ، عن غيلان ، قال : سمعت ابن عمر يقول : الأذنان من الرأس .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا أبو مطرف ، قال : حدثنا غيلان مولى بني مخزوم ، قال : سمعت ابن عمر يقول : الأذنان من الرأس .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الأذنان من الرأس ، فإذا مسحت الرأس فامسحهما .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش ، قال : سمعت ابن عمر سأله سائل ، قال : إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه ، قال : فقال ابن عمر : الأذنان من الرأس . ولم ير عليه بأسا .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد . ح ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن جميعا ، عن سفيان ، عن سالم أبي النضر ، عن سعيد بن مرجانة ، عن ابن عمر ، أنه قال : الأذنان من الرأس .
حدثني ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن رجل ، عن ابن عمر ، قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف ابن مهران ، عن ابن عباس ، قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب ، قالا : الأذنان من الرأس .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : الأذنان من الرأس عن الحسن وسعيد .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني أبو عمرو ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن عمر ، قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي النضر ، عن ابن عمر ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عيس بن يزيد ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن سنان بن ربيعة ، عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن أبي هريرة شك ابن بزيع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «الأُذُنانِ مِنَ الرأسِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معلى بن منصور ، عن حماد بن زيد ، عن سنان بن ربيعة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، قال : الأذنان من الرأس . قال حماد : لا أدري هذا عن أبي أمامة أو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : ثني حماد بن زيد ، قال : ثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الأُذُنانِ مِنَ الرأسِ » .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني ابن جريج وغيره ، عن سليمان بن موسى ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «الأُذُنانِ مِنَ الرأسِ » .
حدثنا الحسن بن شبيب ، قال : حدثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، قال : حدثنا إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الأُذُنانِ مِنَ الرأسِ » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن يونس ، أن الحسن ، قال : الأذنان من الرأس . وقال آخرون : الوجه : كلّ ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن وعلى العارضين ، وما كان منه داخل الفم والأنف ، وما أقبل من الأذنين على الوجه . كلّ ذلك عندهم من الوجه الذي أمر الله بغسله بقوله : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ . وقالوا : إن ترك شيئا من ذلك المتوضىء فلم يغسله لم تجزه صلاته بوضوئه ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثني محمد بن بكر وأبو عاصم ، قالا : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني نافع : أنّ ابن عمر كان يبلّ أصول شعر لحيته ، ويغلغل بيده في أصول شعرها حتى تكثر القطرات منها .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني نافع مولى ابن عمر : أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى تكثر منها القطرات .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد ، قال : حدثنا ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر : كان إذا توضأ خلل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : يزيد ، قال : حدثنا معلى بن جابر اللقيطي ، قال : أخبرني الأزرق ابن قيس ، قال : رأيت ابن عمر توضأ فخلل لحيته .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ليث ، عن نافع : أن ابن عمر كان يخلل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن عبيد ابن عمير : أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غلغل أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله يدلك بأصابعه البشرة . فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل ، كما وصف عنه .
حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ، وشبك لحيته بأصابعه أحيانا ويترك أحيانا .
حدثنا أبو الوليد ، وعليّ بن سهل ، قالا : حدثنا الوليد ، قال : قال حدثنا أبو عمرو ، وأخبرني عبدة ، عن أبي موسى الأشعري نحو ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مسلم ، قال : رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته وقال : من استطاع منكم أن يبلغ الماء أصول الشعر فليفعل .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : حُقّ عليه أن يبلّ أصول الشعر .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : كان مجاهد يخلل لحيته .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا سفيان ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان ، عن ابن شبرمة ، عن سعيد بن جبير ، قال : ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسل ؟ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن طاوس ، أنه كان يخلل لحيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن ابن سيرين ، أنه كان يخلل لحيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : سألت شعبة ، عن تخليل اللحية في الوضوء ، فذكر عن الحكم بن عتيبة : أن مجاهدا كان يخلل لحيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو عن معروف ، قال : رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الزبير بن عديّ ، عن الضحاك ، قال : رأيته يخلل لحيته .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن أبي الأشهب ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن زيد الخدري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل لحيته ، فقلت : لم تفعل هذا يا نبيّ الله ؟ قال : «أمَرنِي بِذَلِكَ رَبّي » .
حدثنا تميم ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن سلام بن سَلْم ، عن زيد العمي ، عن معاوية بن قرة أو يزيد الرقاشي ، عن أنس ، قال : وضأت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأدخل أصابعه من تحت حنكه ، فخلل لحيته ، وقال : «بِهَذَا أمَرَنِي رَبّي جَلّ وعَزّ » .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن سلام بن سَلْم المديني ، قال : حدثنا زيد العمي ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو عبيدة الحدّاد ، قال : حدثنا موسى بن شروان ، عن يزيد الرقاشيّ ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَكَذَا أمَرَنِي رَبي » . وأدخل أصابعه في لحيته ، فخلّلها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى ، عن خالد بن إلياس ، عن عبد الله بن رافع ، عن أمّ سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، فخلّل لحيته .
حدثنا عليّ بن الحسين بن الحر ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، عن واصل بن السائب ، عن أبي سورة ، عن أبي أيوب ، قال : «رأينا النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ ، وخلل لحيته » .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا عمر بن سليمان ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة : «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلّل لحيته » .
حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم أبي أمية : أن حسان بن ثابت المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته ، فقيل له : أتفعل هذا ، فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : حدثنا أبو عمرو ، قال : أخبرني عبد الواحد بن قيس ، عن يزيد الرقاشي وقتادة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا توضأ عرك عارضيه ، وشبك لحيته بأصابعه » .
حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني أبو مهدي بن سنان ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله ، قال : ثني واصل الرقاشي ، عن أبي سورة هكذا قال الأحمسي عن أبي أيوب ، قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء » .
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بطن من الأنف والفم :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهدا يقول : الاستنشاق شطر الوضوء .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن شعبة ، قال : سألت حمادا عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق ، قال حماد : ينصرف فيتمضمض ويستنشق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الصباح ، عن أبي سنان ، قال : قدمت الكوفة فأتيت حمادا فسألته عن ذلك ، يعني عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلّى فقال : أرى عليه إعادة الصلاة .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة ، قال : كان قتادة يقول : إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في صلاته ، فإنه ينفتل ويتوضأ ، ويعيد صلاته .
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه ، وما أدبر فمن الرأس :
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : حدثنا أشعث ، عن الشعبيّ ، قال : ما أقبل من الأذنين فمن الوجه ، وما أدبر فمن الرأس .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : ثني شعبة ، عن الحكم وحماد ، عن الشعبي في الأذنين : باطنهما من الوجه ، وظاهرهما من الرأس .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن الشعبي ، قال : مقدّم الأذنين من الوجه ، ومؤخرهما من الرأس .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم وحماد ، عن الشعبي بمثله ، إلاّ أنه قال : باطن الأذنين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن الشعبي بمثله ، إلاّ أنه قال : باطن الأذنين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن الشعبي ، بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : باطن الأذنين من الوجه ، وظاهرهما من الرأس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة . ح ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله الخولاني ، عن ابن عباس قال : قال عليّ بن أبي طالب : ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قلنا : نعم . فتوضأ ، فلما غسل وجهه ، ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه ، قال : ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : الوجه الذي أمر الله جلّ ذكره بغسله القائم إلى صلاته : كلّ ما انحدر عن منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولاً ، وما بين الأذنين عرضا مما هو ظاهر لعين الناظر ، دون ما بطن من الفم والأنف والعين ، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين ، ودون الأذنين .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان وجها يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته ، لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه ، ثم هم مع إجماعهم على ذلك مجمعون على أن غسل ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزىء فإذا كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك ، فنظير ذلك كلّ ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقة ساتره لا يصل الماء إليه إلاّ بكلفة ومؤنة وعلاج ، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك . فإذا كان ذلك كذلك ، فلا شكّ أن مثل العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الأنف والفم وشعر اللحية والصدغين والشاربين ، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلاّ بعلاج لإيصال الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشدّ . وإذا كان ذلك كذلك ، كان بيّنا أن غسل من غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين وما بطن من الأنف والفم ، إنما كان إيثارا منه لأشقّ الأمرين عليه من غسل ذلك وترك غسله ، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبه الماء في ذلك ، لا على أن ذلك كان عليه عنده فرضا واجبا . فأما من ظنّ أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض ، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجهم وأغفل سبيل القياس ، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك بالأصل المجمع عليه من حكم العينين ، وأن لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه ، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادة صلاته إذا صلّى بطهره ذلك ، ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم لأفضل الفعلين من الترك والغسل .
فإن ظنّ ظانّ أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «إذَا تَوَضّأ أحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْثِرْ » دليلاً على وجوب الاستنثار ، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غير فرض يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله ، ما يغني عن إكثار القول فيه . وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما أو غسل ما أقبل منهما على الوجه ، غير مفسد صلاة من صلّى بطهره الذي ترك فيه غسلهما ، مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شيء مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك ، ما ينبىء عن القول في ذلك مما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا قولهم إنهما ليسا من الوجه دون ما قاله الشعبي .
القول في تأويل قوله تعالى : وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ .
اختلف أهل التأويل في المرافق ، هل هي من اليد الواجب غسلها أم لا ؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب . فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ : أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء ؟ قال : الذي أمر به أن يُبلغ «المرفقين » ، قال تبارك وتعالى : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فذهب هذا يغسل خلفه فقيل له : فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما ؟ فقال : لا أدري ما لا يجاوزهما أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا : إلى المرفقين والكعبين . حدثنا يونس ، عن أشهب عنه . وقال الشافعي : لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل كأنه يذهب إلى أن معناها : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى أن تغسل المَرَافِقِ . حدثنا بذلك عنه الربيع .
وقال آخرون : إنما أوجب الله بقوله : وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ غسل اليدين إلى المرافق ، فالمرفقان غاية لما أوجب الله غسله من آخر اليد ، والغاية غير داخلة في الحدّ ، كما غير داخل الليل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله : ثُمّ أتِمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ لأن الليل غاية لصوم الصائم ، إذا بلغه فقد قضى ما عليه . قالوا : فكذلك المرافق في قوله : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ غاية لما أوجب الله غسله من اليد . وهذا قول زفر بن الهذيل .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك ، لم تَجزه الصلاة مع تركه غسله . فأما المرفقان وما وراءهما ، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله : «أُمّتي الغُرّ المُحَجّلُونَ مِنْ آثارِ الوُضُوءِ ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيلَ غُرّتَهُ فَلْيَفْعَلْ » فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما ، لما قد بينا قبل فيما مضى من أن لك غاية حدت ب «إلى » فقد فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه . وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه ، إلاّ لمن لا يجوّز خلافه فيما بين وحكم ، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ .
اختلف أهل التأويل في صفة المسح الذي أمر الله به بقوله : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فقال بعضهم : وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من روؤسكم بالماء إذا قمتم إلى الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عيسى بن حفص ، قال : ذكر عند القاسم بن محمد مسح الرأس ، فقال : يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح ؟ فقال : مسحة واحدة . ووصف أنه مسح مقدّم رأسه إلى وجهه . فقال القاسم : ابن عمر أفقهنا وأعلما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : أخبرني نافع أن ابن عمر كان إذا توضأ ردّ كفيه إلى الماء ووضعهما فيه ، ثم مسح بيديه مقدّم رأسه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكير ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني نافع : أن ابن عمر كان يضع بطن كفيه على الماء ثم لا ينفضهما ثم يمسح بهما ما بين قرنيه إلى الجبين واحدة ، ثم لا يزيد عليها في كلّ ذلك مسحة واحدة ، مقبلة من الجبين إلى القرن .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا شريك ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا توضأ مسح مقدم رأسه .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبد الأعلى الثعلبيّ ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : يجزيك أن تمسح مقدّم رأسك إذا كنت معتمرا ، وكذلك تفعل المرأة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، قال : رأيت ابن عمر مسح بيافوخه مسحة . وقال سفيان : إن مسح شعرة أجزأه يعني واحدة .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : أيّ جوانب رأسك مسست الماء أجزأك .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا عليّ بن ظبيان ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبيّ ، مثله .
حدثنا الرفاعي ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل الأزرق ، عن الشعبيّ ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا ، فوضع أيوب كفه وسط رأسه ، ثم أمرّها على مقدّم رأسه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يزيد بن الحباب ، عن سفيان ، قال : إن مسح رأسه بأصبع واحدة أجزأه .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عمرو : ما يجزىء من مسح الرأس ؟ قال : أن تمسح مقدم رأسك إلى القفا أحبّ إليّ .
حدثني العباس بن الوليد ، عن أبيه ، عنه ، نحوه .
وقال آخرون : معنى ذلك : فامسحوا بجميع رءوسكم . قالوا : إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء لم تجزه الصلاة بوضوئه ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا أشهب ، قال : قال مالك : من مسح بعض رأسه ولم يعمّ أعاد الصلاة بمنزلة من غسل بعض وجهه أو بعض ذراعه . قال : وسئل مالك عن مسح الرأس ، قال : يبدأ من مقدّم وجهه ، فيدير يديه إلى قفاه ، ثم يردّهما إلى حيث بدأ منه .
وقال آخرون : لا يجزىء مسح الرأس بأقلّ من ثلاث أصابع ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله جلّ ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائم إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه ، ولم يحدّ ذلك بحدّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه . وإذ كان ذلك كذلك ، فما مسح به المتوضىء من رأسه فاستحقّ بمسحه ذلك أن يقال : مسح برأسه ، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم ما مسح برأسه إذا قام إلى صلاته .
فإن قال لنا قائل : فإن الله قد قال في التيمم : فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ أفيجزىء المسح ببعض الوجه واليدين في التيمم ؟ قيل له : كلّ ما مسح من ذلك بالتراب فيما تنازعت فيه العلماء ، فقال بعضهم : يجزيه ذلك من التيمم ، وقال بعضهم : لا يجزئه ، فهو مجزئه ، لدخوله في أسم الماسحين به . وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه ، فمسلم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم ، ولا حجة لأحد علينا في ذلك إذ كان من قولنا : إن ما جاء في آي الكتاب عاما في معنى فالواجب الحكم به على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له ، فإذا خصّ منه منه شيء كان ما خصّ منه خارجا من ظاهره ، وحكم سائره على العموم . وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . والرأس الذي أمر الله جلّ وعزّ بالمسح بقوله به : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ هو منابت شعر الرأس دون ما جاوز ذلك إلى القفا مما استدبر ، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبل من قِبَل وجهه إلى الجبهة .
القول في تأويل قوله تعالى : وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من قرّاء الحجاز والعراق : وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ نصبا . فتأويله : إذا قمتم إلى الصلاة ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وأرجُلَكم إلى الكعبين ، وامسحوا برءوسكم . وإذا قرىء كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم ، وتكون «الأرجل » منصوبة ، عطفا على «الأيدي » . وتأوّل قارئو ذلك كذلك ، أن الله جلّ ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها .
ذكر من قال : عنى الله بقوله : وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ الغسل :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة : أن رجلاً صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظُفُر ، فلما قضى صلاته ، قال له عمر : أعد وضوءك وصلاتك .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا عبد الله بن حسن ، قال : حدثنا هزيل بن شرحبيل ، عن ابن مسعود ، قال : خلّلوا الأصابع بالماء لا تخلّلها النارُ .
حدثنا عبد الله بن الصباح العطار ، قال : حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، قال : حدثنا مرجى ، يعني ابن رجاء اليشكري ، قال : حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة ، عن المغيرة بن حنين : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتوضأ وهو يغسل رجليه ، فقال : «بهذا أُمِرْت » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خليدة ، قال : سمعت مصعب بن سعيد ، يقول : رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضئون ، فقال : خَلّلوا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى ، قال : سمعت القاسم ، قال : كان ابن عمر يخلع خفيه ، ثم يتوضأ فيغسل رجليه ، ثم يخلّل أصابعه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزبير بن عديّ ، عن إبراهيم ، قال : قلت للأسود : رأيت عمر يغسل قدميه غَسْلاً ؟ قال : نعم .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، قال : حدثنا محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لابن أبي سويد : بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه غسلاً ، أدناهم ابن عمك المغيرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الصباح ، عن محمد ، وهو ابن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن أبي قلابة : أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً قد ترك على ظهر قدمه مثل الظفر ، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، عن شيبة بن نصاح ، قال : صحبت القاسم بن محمد إلى مكة ، فرأيته إذا توضأ للصلاة يدخل أصابع رجليه يصبّ عليها الماء ، قلت : يا أبا محمد ، لم تصنع هذا ؟ قال : رأيت ابن عمر يصنعه .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن حماد ، عن إبراهيم في قوله : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ قال : عاد الأمر إلى الغسل .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا أبي ، عن حفص الغاضري ، عن عامر بن كليب ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : قرأ عليّ الحسن والحسين رضوان الله عليهما ، فقرءا : وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ فسمع عليّ رضي الله عنه ذلك ، وكان يقضي بين الناس ، فقال : «وأَرْجُلَكُمْ » ، هذا من المقدّم والمؤخر من الكلام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الرهاب بن عبد الأعلى ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : فامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ بالنصب ، وقال : عاد الأمر إلى الغسل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة وأبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قرأها : وأرْجُلَكُمْ وقال : عاد الأمر إلى الغسل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن قيس ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله : أنه كان يقرأ : وأرْجُلَكُمْ بالنصب .
حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ فيقول : اغسلوا وجوهكم ، واغسلوا أرجلكم ، وامسحوا برءوسكم فهذا من التقديم والتأخير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن شيبان ، قال : أَثْبِتْ لي عن عليّ أنه قرأ : وأرْجُلَكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : وأرْجُلَكُمْ رجع الأمر إلى الغسل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خالد ، عن عكرمة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، قال : كان أصحاب عبد الله يقرءونها : وأرْجُلَكُمْ فيغسلون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، قال : اغسل القدمين إلى الكعبين .
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي السوداء ، عن ابن عبد خير ، عن أبيه ، قال : رأيت عليّا توضأ ، فغسل ظاهر قدميه ، وقال : لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، ظنت أن بطن القدم أحقّ من ظاهرها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، قال : لم أر أحدا يمسح على القدمين .
حدثني المثنى ، قال : ثني الحجاج بن المنهار ، قال : حدثنا حماد ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد أنه قرأ : وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ فنصبها ، وقال : رجع إلى الغسل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : سمعت الأعمش يقرأ : وأرْجُلَكُمْ بالنصب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : سئل مالك عن قول الله : وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ أهي «أرجلِكم » أو «أرجلَكم » ؟ فقال : إنما هو الغسل وليس بالمسح ، لا تمسح الأرجل ، إنما تغسل . قيل له : أفرأيت من مسح أيجزيه ذلك ؟ قال : لا .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سلمة ، عن الضحاك : وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ قال : اغسلوها غسلاً .
وقرأ ذلك آخرون من قرّاء الحجاز والعراق : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ » بخفض الأرجل . وتأوّل قارئو ذلك كذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها ، وجعلوا الأرجل عطفا على الرأس ، فخفضوها لذلك . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الوضوء غسلتان ومسحتان .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن حميد . ح ، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا حميد ، قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور ، فقال : «اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرْجُلَكم ، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما » . فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ » قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما .
حدثنا ابن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس ، قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغَسل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن موسى بن أنس ، قال : خطب الحجاج ، فقال : «اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجُلَكم ، ظهورَهما وبطونَهما وعراقيبهما ، فإن ذلك أدنى إلى خبثكم » . قال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا عبيد الله العتكي ، عن عكرمة ، قال : ليس على الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : امسح على رأسك وقدميك .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، قال : نزل جبريل بالمسح . قال : ثم قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحا ؟
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : أُمر بالتيمم فيما أُمر به بالغسل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، أنه قال : إنما هو المسح على الرجلين ، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل جعل عليه المسح ، وما كان عليه المسح أهمل ؟
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر أنه قال : أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء ، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء الرأس والرجلان .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال : أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم ما أمر أن يغسل بالماء ، وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء .
حدثنا ابن أبي زياد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا إسماعيل ، قال : قلت لعامر : إن ناسا : يقولون : إن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل بغسل الرجلين ، فقال : نزل جبريل بالمسح .
حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن يونس ، قال : ثني من صحب عكرمة إلى واسط ، قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنما يمسح عليهما حتى خرج منها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ » افترض الله غسلتين ومسحتين .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن علقمة أنه قرأ : «وأرْجُلِكُمْ » مخفوضة اللام .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو الحسين العكلي ، عن عبد الوارث ، عن حميد ، عن مجاهد أنه كان يقرأ : «وأرْجُلِكُمْ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال : كان الشعبيّ يقرأ : «وأرْجُلِكُمْ » بالخفض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الحسن بن صالح ، عن غالب ، عن أبي جعفر ، أنه قرأ : «وأرْجُلِكُمْ » بالخفض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك ، أنه قرأ : «وأرْجُلِكُمْ » بالكسر .
والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم ، وإذا فعل ذلك بهما المتوضيء كان مستحقا اسم ماسح غاسل ، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء . ومسحهما : إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما . فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح ، ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والاَخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القرّاء في قوله : وأرْجُلَكُمْ فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء ، وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح . ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضىء الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده ، أو بما قام مقام اليد توجيها منه قوله : «وَامْسَحُوا برُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ » إلى مسح جميعهما عاما باليد ، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا نافع ، عن ابن عمر . وعن الأحول ، عن طاوس : أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء ، قال : ما أعدّ ذلك طائلاً .
وأجاز ذلك من أجاز توجيهه منه إلى أنه معنيّ به الغسل . كما :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت هشاما يذكر عن الحسن في الرجل يتوضأ في السفينة ، قال : لا بأس أن يغمس رجليه غمسا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني أبو حرة ، عن الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة ، قال : يخضخض قدميه في الماء .
فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء ، وخصوص بعضهما به ، وكان صحيحا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد أن مراد الله من مسحهما العموم ، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح فبين صواب القراءتين جميعا ، أعني النصب في الأرجل والخفض ، لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما ، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما ، فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومهما بأمرار الماء عليهما . ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا لما في ذلك من إمرار اليد عليهما ، أو ما قام مقام اليد مسحا بهما . غير أن ذلك وإن كان كذلك وكانت القراءتان كلتاهما حسنا صوابا ، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت ، ولأنه بعد قوله : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فالعطف به على الرءوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ .
فإن قال قائل : وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصا نظير قولك في المسح بالرأس ؟ قيل : الدليل على ذلك تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «وَيْلٌ للأَعْقابِ وَبُطُونِ الأقْدَامِ منَ النارِ » ، ولو كان مسح بعض القدم مجزيا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها ، لأن من أدّى فرض الله عليه فيما لزمه غسله منها لم يستحقّ الويل ، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل ، فوجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه ، أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء ، وصحة ما قلنا في ذلك وفساد ما خالفه . ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد ، قال : كان أبو هريرة يمرّ ونحن نتوضأ من المَطْهَرة ، فيقول : أسبغوا الوضوء أسبغوا الوضوء قال أبو القاسم : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه ، إلا أنه قال : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، قال : كان أبو هريرة يمرّ بأناس يتوضئون مسرعين الطهور ، فيقول : اسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للْعَقِبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : ثني سليمان بن بلال ، قال : ثني سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ » .
حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » ، وقال إسماعيل في حديثه : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا حسين المعلم ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن سالم الدوسي ، قال : دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة ، فدعا بوَضوء ، فقالت عائشة : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، قال : ثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال : ثني أبو سالم مولى المهدي ، هكذا قال عمر بن يونس قال : خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص ، قال : فمررت أنا وعبد الرحمن على حجرة عائشة أخت عبد الرحمن ، فدعا عبد الرحمن بوضوء فسمعت عائشة تناديه : يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا عليّ بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن سالم مولى دوس ، قال : سمعت عائشة ، تقول لأخيها عبد الرحمن : يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثني يعقوب وسوّار بن عبد الله ، قالا : حدثنا يحيى القطان ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة ، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ ، فقالت : أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي سلمة ، قال : رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ ، فقالت : أسبغ الوضوء ، فإنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو رواحة وعبد الله بن راشد ، قالا : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا أبو الأسود ، أخبرنا عبد الله مولى شدّاد بن الهاد ، حدّثه أنه دخل على عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم وعندها عبد الرحمن ، فتوضأ عبد الرحمن ، ثم قام فأدبر ، فنادته عائشة فقالت : يا عبد الرحمن فأقبل عليها ، فقالت له : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن سعد أو سعيد بن أبي كرب ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا النضر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت ابن أبي كرب ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للْعَقِبِ أو العَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت سعيدا يقول : سمعت جابرا يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الصباح بن محارب ، عن محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله ، قال : سمع أذني من النبيّ صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الصباح بن محارب ، عن محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله ، قال : سمع أذني من النبيّ صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ ، أسْبِغُوا الوُضُوءَ » .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا الوليد بن القاسم ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أبصر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يتوضأ ، وبقي من عقبه شيء ، فقال : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثني عليّ بن مسلم ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى قوما يتوضئون لم يصب أعقابهم الماء ، فقال : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو ، قال : حدثنا خلف بن الوليد ، قال : ثني أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن معيقيب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضئون ، فرأى أعقابهم تلوح ، فقال : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ ، أسْبِغُوا الوُضُوءَ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى الأعرج ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضئون لم يتموا الوضوء ، فقال : «أسْبِغُوا الوُضُوءَ ، وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ أو الأعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن رجل من أهل مكة ، عن عبد الله بن عمرو ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضئون ، فلم يتموا الوضوء ، فقال : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح ، فقال : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ ، أسْبِغُوا الوُضُوءَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن منصور ، عن هلال ، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، فسبقنا ناس فتوضئوا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء ، فقال : «وَيْلٌ للْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ ، أسْبِغُوا الوُضُوءَ » .
حدثني عليّ بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المحاربي ، عن مطرّح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، قال : ثني عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة ، أو أخي أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر أقواما يتوضئون ، وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر ، لم يمسه الماء ، فقال : «وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النّارِ » قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعاد وضوءه .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما :
حدّثكم به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس ، قال : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ، ثم قام فصلى » .
وما حدّثك به عبد الله بن الحجاج بن المنهال ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال : سمعت الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم ، فبال عليها قائما ، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه » .
وما حدّثك به الحرث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم ، فتوضأ ومسح على قدميه » .
وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزىء ؟ قيل له : أما حديث أوس بن أبي أوس فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك ، إذ لم يكن في الخبر الذي رُوِى عنه ذكر أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ بعد حدث يوجب عليه الوضوء لصلاته ، فمسح على نعليه ، أو على قدميه ، وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه ، وجب عليه من أجله تجديد وضوئه ، لأن الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ لغير حدث ، كذلك يفعل . يدلّ على ذلك ما :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو مالك الجنبي ، عن مسلم ، عن حبة العرني ، قال : رأيت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه شرب في الرحبة قائما ، ثم توضأ ومسح على نعليه ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع .
فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس .
فإن قال : فإن حديث أوس ، وإن كان محتملاً من المعنى ما قلت ، فإنه محتمل أيضا ما قاله من قال : إنه معنيّ به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدث ؟ قيل : أحسن حالات الخبر ، ما احتمل ما قلت ، إن سلم له ما ادّعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث وإن كان ذلك غير محتمله عندنا ، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم متنافية متعارضة ، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه . وإذا كان ذلك عنه صحيحا ، فغير جائز أن يكون صحيحا عنه إباحة ترك غسل بعض ما قد أوجب فرضا غسله في حال واحدة ووقت واحد ، لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة ، وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم منتف . غير أنا إذا سلمنا لمن ادّعى في حديث أوس ما ادّعى من احتماله مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم على قدمه في حال وضوء من حدث ، ففيه نبأ بالفلْج عليه ، فإنه لا حجة له في ذلك . قلنا : فإذا كان محتملاً ما ادّعيت ، أفمحتمل هو ما قلناه إن ذلك كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم في حال وضوئه لا من حدث . فإن قال : لا ، ثبتت مكابرته لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في وضوء من حدث ، وإن قال : بل هو محتمل ما قلت ومحتمل ما قلنا قيل له : فما البرهان على أن تأويلك الذي ادّعيت فيه أولى به من تأويلنا ؟ فلن يدّعي برهانا على صحة دعواه في ذلك إلا عورض بمثله في خلاف دعواه . وأما حديث حذيفة ، فإن الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش ، حدّثوا به عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم ، فبال قائما ، ثم توضأ ومسح على خفيه .
حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبيّ ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ( ح ) . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ( ح ) . وحدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ( ح ) . وحدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ( ح ) . وحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ( ح ) . وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة .
وكلّ هؤلاء يحدّث ذلك عن الأعمش ، بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه ، وهم أصحاب الأعمش . ولم يَنقل هذا الحديث عن الأعمش ، غير جرير بن حازم ، ولو لم يخالفه في ذلك مخالف لوجب التثبت فيه لشذوذه ، فكيف والثقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك ؟ ولو صحّ ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين ، وإذا جاز ذلك لم يكن لأحد صرف الخبر إلى أحد المعاني المحتملها الخبر إلا بحجة يجب التسليم لها .
القول في تأويل قوله تعالى : إلى الكَعْبَيْنِ .
واختلف أهل التأويل في الكعب ، فقال بعضهم بما :
حدثني أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا القاسم بن الفضل الحُدّاني ، قال : قال أبو جعفر : أين الكعبان ؟ فقال : القوم ههنا ، فقال : هذا رأس الساق ، ولكن الكعبين هما عند المفصل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : قال مالك : الكعب الذي يجب الوضوء إليه ، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب ، وليس بالظاهر في ظاهر القدم .
حدثنا الربيع ، قال : قال الشافعي : لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع فصل الساق والقدم .
والصواب من القول في ذلك أن الكعبين هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم تسميهما العرب المِنْجَمين . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : هما عظما الساق في طرفها .
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين ، وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين . وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا : وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها فاطهروا ، يقول : فتطهروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها . ووحد الجنب وهو خبر عن الجميع ، لأنه اسم خرج مخرج الفعل ، كما قيل : رجل عَدْل وقوم عَدْل ، ورجل زَوْر وقوم زَوْر ، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر الأنثى فيه واحد ، يقال منه : أجْنَب الرجل وجَنُبَ واجْتَنَبَ والفعل الجنابة والإجناب ، وقد سمع في جمعه أجناب ، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب ، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن كنتم جرحى أو مجدرين وأنتم جنب ، وقد بينا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وأما قوله : أوْ على سَفَرٍ فإنه يقول : وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ يقول : أو جاء أحدكم من الغائط بعد قضاء حاجته فيه وهو مسافر وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه . أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ يقول : أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون . وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في اللمس وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
فإن قال قائل : وما وجه تكرير قوله : أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ إن كان معنى اللمس الجماع ، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله : وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا ؟ قيل : وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه بقوله : وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا غير المعنى الذي ألزمه بقوله : أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ وذلك أنه بين حكمه في قوله : وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهره فرض عليه الاغتسال به ثم بين حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيل وهو مسافر غير مريض مقيم ، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون ، أو على سفر أصحاء ، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته ، أو جامع أهله في سفره ماء فتيمموا صعيدا طيبا ، يقول : فتعمدوا واقصدوا وجه الأرض طيبا ، يعني طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس ، جائزا لكم حلالاً . فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ يقول : فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما علق بأيديكم منه ، يعني : من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من ترابه وغباره . وقد بينا فيما مضى كيفية المسح بالوجوه والأيدي منه واختلاف المختلفين في ذلك والقول في معنى الصعيد والتيمم ، ودللنا على الصحيح من كل القول في ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم ، والغسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء ، لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ليلزمكم في دينكم من ضيق ، ولا ليعنتكم فيه . وبما قلنا في معنى الحرج ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن خالد بن دينار ، عن أبي العالية ، وعن أبي مكين ، عن عكرمة في قوله : مِنْ حَرَجٍ قالا : من ضيق .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مِنْ حَرَجٍ : من ضيق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ولِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعلّكُمْ تَشْكُرُونَ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَلَكنْ يُرِيدُ ليُطَهّرَكُمْ : ولكن الله يريد أن يطهركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسل من الجنابة ، والتيمم عند عدم الماء ، فتنظّفوا وتطهروا بذلك أجسامكم من الذنوب . كما :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ الوُضُوءَ يُكَفّرُ ما قَبْلَهُ ، ثم تَصِيرُ الصّلاة نَافِلة » . قال : قلت : أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، لا مرّة ، ولا مرّتين ، ولا ثلاثَ ، ولا أربَع ، ولا خمس .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة صديّ بن عجلان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا أبو كريب ، ومحمد بن المثنى ويحيى بن داود الواسطي ، قالوا : حدثنا إبراهيم بن يزيد يَزرانبِه القرشيّ ، قال : أخبرنا رقبة بن مصقلة العبديّ ، عن شمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَوَضّأ فَأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمّ قامَ إلى الصّلاةِ ، خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ رَجُلٍ يَتَوَضّأُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ إلاّ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ وَجْهِهِ ، وَإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ أوْ ذِرَاعَيْهِ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ ذِرَاعَيْهِ ، فإذَا مَسَحَ رأسَهُ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ رأسِهِ ، وَإذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ رِجْلَيْهِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا حاتم ، عن محمد بن عجلان ، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك ، عن عمرو بن عبسة ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إذَا غَسَلَ المُؤْمِنُ كَفّيْهِ انْتَثَرَتِ الخَطايا مِنْ كَفّيْهِ ، وإذَا تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرَيْهِ ، وَإذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ حتى تَخْرُجَ مِنْ أشْفارِ عَيْنَيْهِ ، فإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ ، فإذَا مَسَحَ رأسَهُ وأُذُنَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ رأسِهِ وأذنَيْهِ ، فإذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ حتى تَخْرُجَ مِنْ أظْفارِ قَدَمَيْهِ ، فإذَا انْتَهَى إلى ذَلِكَ مِنْ وُضُوئِهِ كانَ ذَلِكَ حَظّهُ مِنْهُ ، فإنْ قامَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً فِيهِما بِوَجْهِهِ وَقَلْبِهِ على رَبّهِ كانَ مِنح خَطاياهُ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ » .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذا توضأ العَبْدُ المُسْلِمُ أوِ المُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْها بعَيْنَيْهِ مَعَ المَاءِ ، أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرَةٍ مِنَ المَاءِ ، أوْ نَحْوِ هَذَا . وَإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلّ خَطِيئَةٍ بِها يَدَاهُ مَعَ المَاءِ ، أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرَةٍ مِنَ المَاءِ ، حتى يَخْرُجَ نَقِيّا مِنَ الذّنُوبِ » .
حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا عليّ بن عياش ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن حُمران مولى عثمان ، قال : أتيبت عثمان بن عفان بوَضوء وهو قاعد ، فتوضأ ثلاثا ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي هذا ، ثم قال : «مَنْ تَوّضّأ وُضُوئي هَذَا كانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ ، وكانَتْ خُطاهُ إلى المَساجِدِ نافِلَةً » .
وقوله : وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فإنه يقول : ويريد ربكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه ، وتيممكم إذا لم تجدوه ، أن يتمّ نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم ، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا ، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم أيها المؤمنون لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول : تشكرون الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام إليه قصد له ، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا ، والإجماع على خلافه لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته " فقيل مطلق أريد به التقييد ، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين . وقيل الأمر فيه للندب . وقيل كان ذلك أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " . { فاغسلوا وجوهكم } أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك . { وأيديكم إلى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل : { إلى } بمعنى مع كقوله تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أو متعلقة بمحذوف تقديره : وأيديكم مضافة إلى المرافق ، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة ، لأن مطلق اليد يشتمل عليها . وقيل : إلى تفيد الغاية مطلقا وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية ، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا . وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } لكن لما لم تتميز الغاية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا . { وامسحوا برؤوسكم } الباء مزيدة . وقيل للتبعيض ، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم ، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل : وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله : { فاغسلوا وجوهكم } واختلف العلماء في قدر الواجب . فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه : أقل ما يقع عليه الاسم أخذا باليقين . وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : مسح ربع الرأس ، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع . ومالك رضي الله تعالى عنه : مسح كله أخذا بالاحتياط . { وأرجلكم إلى الكعبين } نصبه نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب عطفا على وجوهكم ويؤيده : السنة الشائعة ، وعمل الصحابة ، وقول أكثر الأئمة ، والتحديد ، إذ المسح لم يحد . وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى : { عذاب يوم أليم } { وحور عين } بالجر
في قراءة حمزة والكسائي ، وقولهم جحر ضب خرب . وللنحاة باب في ذلك ، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح ، وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب . وقرئ بالرفع على { وأرجلكم } مغسولة . { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فاغتسلوا . { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } سبق تفسيره ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة . { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم . { ولكن يريد ليطهركم } لينظفكم ، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب ، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء . فمفعول { يريد } في الموضعين محذوف واللام للعلة . وقيل مزيدة والمعنى : ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة . { وليتم نعمته عليكم } ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين ، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . { لعلكم تشكرون } نعمته . والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل ، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب ، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود ، وأن آلتهما مائع وجامد ، وموجبهما حدث أصغر وأكبر ، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة .
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء ، لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوة ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير ، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح فيما روي ، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول { لئن رجعنا إلى المدينة } [ المنافقون : 8 ] القصة بطولها ، وفيها وقع حديث الإفك{[4460]} ، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة { إذا قمتم } ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله { إذا قمتم } فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة ، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءاً فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث{[4461]} . وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث{[4462]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتداباً إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد{[4463]} إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ، »{[4464]} وقال : إنما رغبت في هذا ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان لا يعمل عملاً إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة{[4465]} ، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وقال زيد بن أسلم والسدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم .
قال القاضي أبو محمد : والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث ، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أوجاء أحد منكم من الغائط أولا مستم النساء } يعني الملامسة الصغرى { فاغتسلوا } فتمت أحكام المحدث حدثاً أصغر ثم قال : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } فهذا حكم نوع آخر ، ثم قال للنوعين جميعاً { وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً } وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره ، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين{[4466]} وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : { فاطهروا } ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ، ليذكر الجُنب العادم للماء كما ذكر الواجد ، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم .
وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها ، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه ، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه ، والوجه ما واجه الناظر وقابله ، وحدّه في ذي اللحية فقيل : حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن ، وقيل بل حده فيها آخر الشعر ، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس ذكره الطبري{[4467]} ، واختلف في حده عرضاً فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل : من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل : من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل : يغسل ذلك بنفسه ليس من الوجه ولا من الرأس ، وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس ، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء ، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة ، وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .
وقوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحياناً ليطيل الغرة ، وحَّد الله تعالى موضع الغسل منه { إلى المرافق } يقال في واحدها مرفق ومرفق ، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر ، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها ، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل ، ومثل أبو العباس المبرد في ذلك بأن تقول : اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله : { أتموا الصيام إلى الليل }{[4468]} .
قال القاضي أبو محمد : وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد { إلى } ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه ، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد ، وروي عنه أنهما داخلان .
وقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين ، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه ، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر ، وقالت فرقة : يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس ، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول بالعموم واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل : هو فرض ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة : الواجب من مسح الرأس عمومه ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي : وروي عن مالك أنه إن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ .
قال القاضي أبو محمد : وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس ، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس ، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه ، وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط ، وقال أصحاب الرأي : إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم : يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها ، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه ، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به ؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعاً وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة ، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء .
قال القاضي أبو محمد : ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء ، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات ، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثاً أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين ، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثاً ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة ، والباء في قوله { برؤوسكم } مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس ، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم ، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كان المعنى أوجدوا مسحاً برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك ، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثاراً وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلِكم » خفضاً وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصباً ، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض ، وروى عنه حفص النصب ، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلُكم » بالرفع المعنى فاغسلوها ، ورويت عن نافع ، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين ، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح ، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو اللازم من قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ، «ويل للأعقاب من النار »{[4469]} ، ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين ، واختلفوا ، فقالت فرقة منهم ، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا » بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى : { فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم }{[4470]} قال وكان أنس إذا مسح رجليه بَّلهما وروي أيضاً عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح .
وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ثم قال : «ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً » وروي عن أبي جعفر أنه قال : امسح على رأسك وقدميك ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلِكم » بكسر اللام ، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم ، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح . وذهب قوم ممن يقرأ بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين » هو الغسل ، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي ، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى : { فطفق مسحاً }{[4471]} : إنه الضرب ، ويقال : مسح علاوته{[4472]} إذا ضربه ، قال أبو علي : فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل ، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل ، أن الحد قد وقع فيهما ب { إلى } كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه ، فكان الوضوء مغسولين ُحَّد أحدهما وممسوحين حَُّد أحدهما ، وقال الطبري رحمه الله : إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلاً ماسحاً ، قال : ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار . وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء . وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بكسر اللام{[4473]} .
والكلام في قوله { إلى الكعبين } كما تقدم في قوله { إلى المرافق } واختلف اللغويون في { الكعبين } فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل . وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق . وقال قوم الكعب هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم أحداً جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام .
قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفاً في أن { الكعبين } هما العظمان في مجمع مفصل الساق ، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي { إلى المرافق } أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر ، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر ، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان ، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه ، فقال الأبهري : الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس{[4474]} للناسي مجزىء ، واختلف في العامد فقيل : يجزىء ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزىء لأنه عابث .
وقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً } الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب ، ومن المجاورة والقرب قيل { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه ، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون { الجار الجنب } [ النساء : 36 ] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب و «اطهروا » أمر بالاغتسال بالماء ، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، وقال جمهورالناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب أيضاً بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى : { أو لامستم النساء } إذ الملامسة هنا الجماع ، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه ، هذا ينغمس الرجل في الماء دون تدلك ، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل : { وإن كنتم مرضى } إلى قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقراءة من قرأ «من الغيط » .
وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلاً مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة ، من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم ، وتعدية ( أراد ) وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل{[4475]}
قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال ، المعنى إرادتي لأنسى ، ومن ذلك قول قيس بن سعد :
أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود{[4476]}
ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام ، وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن ، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة [ من ] وإن لم يكن النفي واقعاً على الفعل الواقع على الحرج ، ولهذا نظائر ، والحرج : الضيق ، والحرجة : الشجر الملتف المتضايق ، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ، ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم«دين الله يسر »{[4477]} وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة »{[4478]} وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبداً ولذلك قال أسيد : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر .
وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } الآية ، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى ، و { لعلكم } : ترجّ في حق البشر ، وقرأ سعيد بن المسيب «يطْهركم » بسكون الطاء وتخفيف الهاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا}: إن أصابتكم جنابة، {فاطهروا}: فاغتسلوا، {وإن كنتم مرضى}، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أو أصابكم جراحة، أو جدري، أو كان بكم قروح وأنتم مقيمون في الأهل، فخشيتم الضرر والهلاك، فتيمموا الصعيد؛ ضربة للوجه وضربة للكفين، {أو} إن كنتم {على سفر}، نزلت في عائشة، رضي الله عنها، حين أسقطت قلادتها وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بني أنمار، وهم حي من قيس عيلان. {أو جاء أحد منكم من الغائط} في السفر {أو لامستم النساء}: جامعتم النساء في السفر، {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، يعني من الصعيد ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع، ولم يؤمروا بمسح الرأس في التيمم. {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، يعني ضيق في أمر دينكم، إذ رخص لكم في التيمم، {ولكن يريد ليطهركم} في أمر دينكم من الأحداث والجنابة، {وليتم نعمته عليكم}: إذ رخص لكم في التيمم في السفر، والجراح في الحضر، {لعلكم تشكرون} رب هذه النعم فتوحدونه، فلما نزلت الرخصة، قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لعائشة رضوان الله عليها: والله ما علمتك إلا مباركة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:"إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ" أمراد به كلّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه من أنه معنىّ به بعض أحوال القيام إليها دون كلّ الأحوال، وأن الحال التي عني بها حال القيام إليها على غير طهر. سئل عكرمة عن قول الله: "إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيكُمْ إلى المَرَافقِ "فكلّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلاّ من حدث.
وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
وقال آخرون: بل ذلك معني به كل حال قيام المرء إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا. وقال آخرون: بل كان هذا أمرا من الله عزّ ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به أن يتوضؤوا لكلّ صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف.
حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: ثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازنيّ، مازن بني النجار، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثَتْنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة، فشقّ ذلك عليه، فأمر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه، فكان يتوضأ...
فإن ظنّ ظان أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة، دلالة على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظنّ غير الصواب، وذلك أن قول القائل: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، محتمل من وجوه لأمر الإيجاب والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق، وإذ كان محتملاً ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقية مدّعية. وقد أجمعت الحجة على أن الله عزّ وجلّ لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرض الوضوء لكلّ صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما قلنا من أن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك كان على ما وصفنا من إيثاره فعل ما ندبه الله عزّ ذكره إلى فعله وندب إليه عباده المؤمنين بقوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافقِ..."، وأن تركه في ذلك الحال التي تركه كان ترخيصا لأمته وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلاّ من حدَث يوجب نقض الطهر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بقعب صغير، فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد...
وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ، فأذن له بهذه الآية أن يفعل كلّ ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عدا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلّم عليه فلا يردّ علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمك فلا تكلمنا ونسلم عليك فلا تردّ علينا قال: حتى نزلت آية الرخصة: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ...".
اختلف أهل التأويل في حدّ الوجه الذي أمر الله بغسله، القائم إلى الصلاة بقوله: "إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ"؛ فقال بعضهم: هو ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه، منحدرا إلى منقطع ذقنه طولاً، وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين فليس من الوجه ولا غيره، ولا أحبّ غسل ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاء شعر اللحية والصدغين اللذين قد عطاهما عذر اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر مجزئ عن غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، لأن الوجه عندهم هو ما ظهر لعين الناظر من ذلك فقابلها دون غيره...
"وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ".
اختلف أهل التأويل في المرافق، هل هي من اليد الواجب غسلها أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب. فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ: أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ قال: الذي أمر به أن يُبلغ «المرفقين»، قال تبارك وتعالى: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فذهب هذا يغسل خلفه فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال: لا أدري ما لا يجاوزهما، أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين. وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى أن تغسل المَرَافِقِ.
وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله: "وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ" غسل اليدين إلى المرافق، فالمرفقان غاية لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدّ، كما غير داخل الليل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: "ثُمّ أتِمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ" لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله: "فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ" غاية لما أوجب الله غسله من اليد.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تَجزه الصلاة مع تركه غسله. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله: «أُمّتي الغُرّ المُحَجّلُونَ مِنْ آثارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيلَ غُرّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبل فيما مضى من أن كل غاية حدت ب «إلى» فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلاّ لمن لا يجوّز خلافه فيما بين وحكم، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه.
اختلف أهل التأويل في صفة المسح الذي أمر الله به بقوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ"؛ فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رؤوسكم بالماء إذا قمتم إلى الصلاة... عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدم رأسه.
عن إبراهيم، قال: أيّ جوانب رأسك مسست الماء أجزأك.
وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء لم تجزه الصلاة بوضوئه ذلك... سئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردّهما إلى حيث بدأ منه.
وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقلّ من ثلاث أصابع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جلّ ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائم إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدّ ذلك بحدّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقّ بمسحه ذلك أن يقال: مسح برأسه، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم ما مسح برأسه إذا قام إلى صلاته.
فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: "فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ" أفيجزئ المسح ببعض الوجه واليدين في التيمم؟ قيل له: كلّ ما مسح من ذلك بالتراب فيما تنازعت فيه العلماء، فقال بعضهم: يجزيه ذلك من التيمم، وقال بعضهم: لا يجزئه، فهو مجزئه، لدخوله في أسم الماسحين به. وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا حجة لأحد علينا في ذلك إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عاما في معنى فالواجب الحكم به على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خصّ منه شيء كان ما خصّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم... والرأس الذي أمر الله جلّ وعزّ بالمسح بقوله به: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ" هو منابت شعر الرأس دون ما جاوز ذلك إلى القفا مما استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبل من قِبَل وجهه إلى الجبهة.
"وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ": اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأه جماعة من قرّاء الحجاز والعراق: "وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ" نصبا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجُلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون «الأرجل» منصوبة، عطفا على «الأيدي». وتأوّل قارئو ذلك كذلك، أن الله جلّ ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
وقرأ ذلك آخرون من قرّاء الحجاز والعراق: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ» بخفض الأرجل. وتأوّل قارئو ذلك كذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا الأرجل عطفا على الرأس، فخفضوها لذلك... والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. ومسحهما: إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والاَخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القرّاء في قوله: وأرْجُلَكُمْ فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء، وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح. ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد توجيها منه قوله: «وَامْسَحُوا برُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ» إلى مسح جميعهما عاما باليد، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء، وأجاز ذلك من أجاز توجيهه منه إلى أنه معنيّ به الغسل... فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به، وكان صحيحا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد أن مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح فبين صواب القراءتين جميعا، أعني النصب في الأرجل والخفض، لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما، فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومهما بأمرار الماء عليهما، ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد مسحا بهما. غير أن ذلك وإن كان كذلك وكانت القراءتان كلتاهما حسنا صوابا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ" فالعطف به على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي، وقد حيل بينه وبينها بقوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ".
فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصا نظير قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَيْلٌ للأَعْقابِ وَبُطُونِ الأقْدَامِ منَ النارِ»، ولو كان مسح بعض القدم مجزيا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها، لأن من أدّى فرض الله عليه فيما لزمه غسله منها لم يستحقّ الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل، فوجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه، أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحة ما قلنا في ذلك وفساد ما خالفه. "إلى الكَعْبَيْنِ": واختلف أهل التأويل في الكعب؛
فقال بعضهم: قال أبو جعفر: أين الكعبان؟ فقال: القوم ههنا، فقال: هذا رأس الساق، ولكن الكعبين هما عند المفصل.
قال مالك: الكعب الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
وقال آخرون: قال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع فصل الساق والقدم.
والصواب من القول في ذلك أن الكعبين هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم تسميهما العرب المِنْجَمين. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها.
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
"وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا": وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها "فاطهروا"، يقول: فتطهروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها...
"وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ": وإن كنتم جرحى أو مجدرين وأنتم جنب.
"أوْ على سَفَرٍ": وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب "أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ": أو جاء أحدكم من الغائط بعد قضاء حاجته فيه وهو مسافر، وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه. "أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ": أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون.
فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله: أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ إن كان معنى اللمس الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا"؟ قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه بقوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا" غير المعنى الذي ألزمه بقوله: "أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ" وذلك أنه بين حكمه في قوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا" إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهره فرض عليه الاغتسال به، ثم بين حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيل وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
"فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ": فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهله في سفره ماء، "فتيمموا صعيدا طيبا" يقول: فتعمدوا واقصدوا وجه الأرض طيبا، يعني طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالاً. "فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ": فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" مما علق بأيديكم منه، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من ترابه وغباره.
"ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ": ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء، "لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ": ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه. "وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ولِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعلّكُمْ تَشْكُرُونَ": ولكن الله يريد أن يطهركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسل من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظّفوا وتطهروا بذلك أجسامكم من الذنوب. كما:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الوُضُوءَ يُكَفّرُ ما قَبْلَهُ، ثم تَصِيرُ الصّلاة نَافِلة». قال: قلت: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، لا مرّة، ولا مرّتين، ولا ثلاثَ، ولا أربَع، ولا خمس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذَا غَسَلَ المُؤْمِنُ كَفّيْهِ انْتَثَرَتِ الخَطايا مِنْ كَفّيْهِ، وإذَا تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرَيْهِ، وَإذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ حتى تَخْرُجَ مِنْ أشْفارِ عَيْنَيْهِ، فإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ، فإذَا مَسَحَ رأسَهُ وأُذُنَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ رأسِهِ وأذنَيْهِ، فإذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ حتى تَخْرُجَ مِنْ أظْفارِ قَدَمَيْهِ، فإذَا انْتَهَى إلى ذَلِكَ مِنْ وُضُوئِهِ كانَ ذَلِكَ حَظّهُ مِنْهُ، فإنْ قامَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً فِيهِما بِوَجْهِهِ وَقَلْبِهِ على رَبّهِ كانَ مِنح خَطاياهُ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ».
"وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ": ويريد ربكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه، أن يتمّ نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم أيها المؤمنون "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ": تشكرون الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قيل فاغتسلوا بأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف، لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة. ألا ترى أنه به يضعف إذا كثره، وبتركه يقوى. فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه. وأما الحدث فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف من نحو الأكل والشرب والحدث، وليس باستعمال كل البدن، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الآية. ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط والملامسة. ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر ولكن باسم الغائط، ولكن كان متعلقا لمعنى فيه دلالة جواز القياس لأنه ذكر الغائط والمجيء منه، [والغائط] هو المكان الذي تقضى فيه، والمراد منه المعنى، وهو قضاء الحاجات. فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد بمعنى، فوجد ذلك المعنى في غيره وجب ذلك الحكم في ذلك الغير. فإذا عدم الماء في المكان الذي يعدم، وإن لم يكن سفرا، يجوز التيمم فيه، وكذلك إذا خاف الضرر من الماء جاز له التيمم، يكون مريضا لأنه ليس أباح ذلك، هذا هو المعنى الثاني للمريض باسم المرض ولا باسم السفر، ولكن لمعنى فيه.
وقوله تعالى: {أو لامستم النساء} قد ذكرنا في ما تقدم أن الملامسة هو الجماع. [كذلك] روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن عباس: الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان، كله جماع، ولكن الله كريم يكني.
وقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} جعل الطهارة بالماء والتراب لأنه بهما معاش الخلق، وبهما قوام الأبدان حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما. فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما، والله أعلم. ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف لأنه يقدم على الملك الجبار، ويقوم بين يديه ويناجيه. ومن أتى ملكا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزين، ثم يدخل عليه، فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} قيل {صعيدا طيبا} والصعيد هو وجه الأرض. وقوله تعالى: {طيبا} قال بعضهم: الطيب ما ينبت من الزرع وغيره. وقال آخرون: الطيب ههنا هو الطاهر. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» [البخاري: 335] أخبر أن الأرض جعلت له مسجدا وطهورا. فكان قوله: «طهورا» تفسيرا لقوله تعالى: {طيبا} والله أعلم...
وقوله تعالى: {ما يريد ليجعل عليكم من حرج} يحتمل هذا وجهين: يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيث ما كنتم في الأسفار وغيره، ولكن جعل لكم التيمم، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره، والله أعلم. ووجه آخر: ما أراد الله بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل {عليكم من حرج} ولكن أراد ما ذكر.
وقوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} يحتمل يريد ليطهركم بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعا. ويحتمل قوله {يريد ليطهركم} من الذنوب والآثام التي ارتكبوها كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل.
وقوله تعالى: {وليتم نعمته عليكم} تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه والتكفير مما ارتكبوا. ويجوز أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم يموتون على الإيمان حين أخبر أنه يتم نعمته عليهم.
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ} والغائطُ هو المطمئنُّ من الأرض، وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم فيه، وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس؛ لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم، وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة؛ فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله -تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وذلك مثل قوله: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي: فإذا أردت القراءة. تقول: إذا اتجرت فاتجر إلى البر، وإذا جالست، فجالس فلانا، أي: إذا أردت المجالسة. وظاهر الآية يقتضي أنه يجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة، ولكن بالسنة عرفنا جواز الجمع بين الصلوات بوضوء واحد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين أربع صلوات يوم الخندق بوضوء واحد، وجمع صلى الله عليه وسلم بين خمس صلوات يوم فتح مكة بوضوء واحد، وحكى عن علي- رضي الله عنه -أنه قال: الوضوء لكل صلاة مكتوبة. وقيل: هو على الاستحباب...
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) يعني: مع المرافق، قال المبرد: إذا مُدّ الشيء إلى جنسه تدخل فيه الغاية، وإذا مُدّ إلى خلاف جنسه، لا تدخل فيه الغاية، فقوله: (إلى المرافق) مُدَّ إلى جنسه، فتدخل فيه الغاية. وأما قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) مُدَّ إلى خلاف جنسه، فلا تدخل فيه الغاية. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الإنسان به بالاتكاء عليه...
(ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) قال محمد ابن كعب القرظي: أراد بإتمام النعمة: تكفير الخطايا بالوضوء على ما روينا، وهذا مثل قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك يعني: بغفران الذنب، وفي الوضوء تكفير الخطايا التي ارتكبها في الدنيا، ونور يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: «أمتي غرّ محجّلون من آثار الوضوء يوم القيامة؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل».
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً} الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل {والجار الجنب} [النساء: 36] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون {الجار الجنب} [النساء: 36] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب. و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء،...
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله {أوفوا بالعقود} طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية، ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وليتم نعمته عليكم} ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. {لعلكم تشكرون} نعمته. والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وليتم نعمته عليكم} أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل: الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء:"ويتم نعمته عليكم"، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين. وقيل: تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله: {وأتممت عليكم نعمتي} وقيل: بغفران ذنوبهم. وفي الخبر: « تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار». {لعلكم تشكرون} أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا به! صدقوه بأنكم {إذا} عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة {قمتم} أي بالقوة، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام {إلى الصلاة} أي جنسها محدثين، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما:"ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه، فقوله "المصلون "إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة، فما دامت قائمة فهو زائل، ومتى زالت والعياذ بالله -رجع، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بين العبد والكفر ترك الصلاة "وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة". ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط: {فاغسلوا} أي لأجل إرادة الصلاة، ومن هنا يعلم وجوب النية، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية {وجوهكم} وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة، لأنه من الحرج، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب {وأيديكم}.
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم: {إلى المرافق} أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدخل كقوله تعالى {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وتارة لا تدخل كقوله تعالى
{ثم أتموا الصيام إلى اللّيل} [البقرة: 187] والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً {وامسحوا} ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال: {برءوسكم} علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف: المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح.
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرئ: {وأرجلكم} بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب، قال في القاموس: المسح كالمنع: إمرار اليد على الشيء السائل. فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل.
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل- كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: {إلى الكعبين} وهما العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل -كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب- كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب -أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كانت المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفاً على ما تقديره: هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر: {وإن كنتم} أي حال القصد للصلاة {جنباً} أي ممنين باحتلام أو غيره {فاطهروا} أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء.
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: {وإن كنتم مرضى} أي بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب {أو على سفر} طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال {أو جاء أحد منكم} وهو غير جنب {من الغائط} أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره. كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال: كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: {أو لامستم النساء} أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا {فلم تجدوا ماء} أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمموا} أي اقصدوا قصداً متعمداً {صعيداً} أي تراباً {طيباً} أي طهوراً خالصاً {فامسحوا}.
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال: {بوجوهكم وأيديكم منه} أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً: {ما يريد الله} أي الغني الغنى المطلق {ليجعل عليكم} وأغرق في النفي بقوله: {من حرج} أي ضيق علماً منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم {ولكن يريد ليطهركم} أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وبامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن {وليتم نعمته} أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال {عليكم} لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر {لعلكم تشكرون} أي و فعل ذلك كله.
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. وفي رواية: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً. فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6]، وفي رواية: فأنزل الله آية التيمم {فتيمموا} فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة لهم، وفي رواية: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته" وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة "وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكم ومزيد الامتنان به، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجنابة نص خاص، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه المناسبة بين آية الوضوء وما قبلها هو أن الحدثين اللذين هما سبب الطهارتين هما أثر الطعام والنكاح، فلولا الطعام لما كان الغائط الموجب للوضوء، ولولا النكاح لما كانت ملامسة النساء الموجبة للغسل، وأما المناسبة بين آية الميثاق وما قبلها فهي أن الله تعالى بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعبادات والعادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة لله ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم بها مخلصين."
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه.. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن.. إنها -أولا- لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء.. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء.. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان.. والتي بها يتكامل وجود "الإنسان". ثم اللفتة الثانية.. إن إحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب... كبقية الأحكام التالية في السورة... كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا -في الفقه- على تسميته "بأحكام العبادات"، وما اصطلح على تسميته "بأحكام المعاملات"...
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم، لعلكم تشكرون).. والتطهير حالة واجبة للقاء الله -كما أسلفنا- وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا. فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء. ذلك أن الله -سبحانه- لا يريد أن يعنت الناس، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف. إنما يريد أن يطهرهم، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها.. فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم.
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا: (ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).. تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء. فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد، ليقول متفلسفة هذه الأيام: إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه. وجانب التطهر الروحي أقوى. لأنه عند تعذر استخدام الماء، يستعاض بالتيمم، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى.. وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطوار، بنظام واحد ثابت، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال. فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء. كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها، عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها.. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان.. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء.. لقاء العبد بربه.. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب.. إنها نداوة القلب، واسترواح الظل، وبشاشة اللقاء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص: من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع: وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ. وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى: {يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} في سورة النّساء (43) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء، أم آية سورة المائدة. وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول»، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة: أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ، أراد أن يذكر آية {يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا}، وهي آية النّساء (43)، فذكر آية {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية. فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية {يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة} قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، والأرجح عندي: أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة.
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة. ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء. قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام» « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا: إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة، معناه كان بالسنّة. فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً.
وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ.
وفي « سيرة ابن إسحاق» ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ. وقولهم: الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود. وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة. قال بعض علمائنا: ولذلك قالوا في حديث عائشة: فنزلت آية التّيمّم؛ ولم يقولوا: آية الوضوء؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية.
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن. وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء. ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا {فاطَّهّروا}، وقوله هنالك {تغتسلوا} [النساء: 43]، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء.
ومعنى {إذا قمتم إلى الصّلاة} إذا عزمْتم على الصّلاة، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل...
... وروى مالك في « الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السديُّ. فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة.
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب {إذا قمتم} فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة. والأمر ظاهر في الوجوب. وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى» ولم أره لغير الطبرسي.
وقال بريدة بن أبي بردة: كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد. وقال بعضهم: هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيفَ وهي مصدّرة بقوله: {يأيّها الّذين آمنوا}. والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين» ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء (43) المصدّرة بقوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى -إلى قوله- ولا جُنباً} الآية. وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة. وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره. والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء. وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصّلاة، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله: {وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا} فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم، فمفهوم الشرط وهو قوله: {وإن كنتم مرضى} ومفهوم النّفي وهو {فلم تجدوا ماء} تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب.
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة. وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو، ولذلك اقتصر على قوله: {وأيديكم} في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء. وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما.
وقد اختلف الأئمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود. وفي « المدارك» أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها. ثمّ قال للسائل بعد أيّام: قرأت « كتاب سيبويه» فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود. وفي مذهب مالك: قولان في دخول المرافق في الغسل، وأوْلاهما دخولهما. قال الشيخ أبو محمد: وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد. وعن أبي هريرة: أنّه يغسل يديه إلى الإبطين، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة. وقيل: تكره الزيادة.
وقوله: {وأرجلكم} قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على {وأيديكم} وتكون جملة {وامسحوا برؤوسكم} معترضة بين المتعاطفين. وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه "وَيْلٌ للأعقاب من النّار "
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بخفض {وأرجلكم}. وللعلماء في هذه القراءة تأويلات: منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل، وروي هذا عن ابن عبّاس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وقتادة. وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال: « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما» فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم}. ورويت عن أنس رواية أخرى: قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار» مرّتين. وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة، قالوا: ليس في الرجلين إلاّ المسح، وإلاّ ابن جرير الطبري: رأى التخيير بين الغسل والمسح، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح.
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء. ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح.
وجملة {وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه} مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا.
وجملة {مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج} تعليل لرخصة التيمّم، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق.
واللام في {ليجعل} داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر، وهي لام زائدة على الأرجح، وتسمّى لام أَنْ. وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُريد الله ليبيّن لكُم} في سورة النّساء (26)، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود.
والحرج: الضيق والشدّة، والحَرَجَة: البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق، والجمع حَرَج. والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها.
وقوله: {ولكن يريد ليطهّركم} إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار: منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله، ككون الظهر أربع ركعات، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع. فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء، كما تقدّم في سورة النساء.
وقوله {وليتمّ نعمته عليكم} أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة. فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم.
وقوله: {لعلّكم تشكرون} أي رجاء شكركم إيّاه. جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول.
وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم سبحانه فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء لأنها ليست مسألة طارئة فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني. إن الإعداد البدني يكون بالطهارة والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة، وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم، فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم، ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه، وإذا ما أراد الإنسان أن يلقي الله في الأوقات التي بين الصلوات وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله، لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة: (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب)...
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات. ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد، لذلك جعل الله الوضوء لشيء والجنابة لها شيء آخر، فعن الطعام ينشأ الأخبثان وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر، فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر فقال:"وإن كنتم جنبا فاطهروا".
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ممن يتحرك الإيمان في حياتهم العمليّة، فلا يبقى مجرد فكرة في العقل ونبضةٍ في القلب وكلمة في اللسان، بل يتحول إلى حركةٍ في الواقع الإنساني في الحياة، وهذا هو النّهج الَّذي أراد الله لكم اتباعه كي تتبيّنوا ما تأخذون به أو تدعونه مما يصلح أموركم أو يبعدكم عما يفسدها،...
إنَّنا نفهم من ذلك كله أنَّ الإسلام الَّذي جعل الطهارة عبادة تتحرّك في الجوّ الصلاتي وفي كل الأجواء المتّصلة بالله، يؤكد أنّ للنظافة في تخطيطه التشريعي الدور الحيويّ الَّذي يمتد حتّى في نظافة كل ما يتصل بالإنسان في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وشهوته وغير ذلك. وهذه من مميزات الإسلام في تخطيطه التشريعي الَّذي يؤكد على حماية الإنسان من كل قذارة ماديّة تسيء إلى روحه وبدنه وحياة النّاس من حوله، أو قذارة روحيّة تسيء إلى روحه وأخلاقيته وسلوكه الفرديّ والمجتمعيّ، الأمر الَّذي يوحي بأنَّ الإنسان القذر بعيد عن الله في بدنه وروحه. أمّا التيمم، فإنَّه يمثّل البديل الإيحائيّ عن الوضوء والغسل عند عدم وجود الماء أو عدم التمكن من استعماله، حتَّى لا يبقى المكلَّف من دون بديل، فكان التراب أو الأرض هو الواجب الجديد الَّذي يوحي بالمعنى الروحيّ العباديّ، على أساس مسح الجبهة بالتراب، وكذلك الكفين، ما يدل على الخضوع لله والتواضع له مع ما يمثِّلهُ اشتراط الصعيد بالطهارة من إيحاءات الطهارة، واشتراط نيّة القربة فيه الذي يجعل الإنسان يفكر بأنَّ الله خلقه من تراب ليتعبّد إلى الله في خلقه، ليعبّر ذلك عن إيحاءٍ روحيّ ينساب في وجدانه، ليدخل إلى الصلاة في طهارةٍ ترابيّةٍ عباديّةٍ تنفتح به على سرِّ وجوده، ليتكامل في موقفه بين يدي ربِّه في إحساسه الروحيّ بالأرض الّتي جاء الحديث النبويّ الشريف فيها: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». ما يعني بأنَّها رمز الطهارة كما هي موضع السجود. والله العالم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويجب هنا الانتباه إلى أن جملة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم، إِلاّ أنّها تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخوخة أو ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه. ولا يخفي أيضاً أنّ هناك من الأحكام الإِلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إِلاّ أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج» وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة.