قوله وتعالى : { ولما سكت } أي : سكن .
قوله تعالى : { عن موسى الغضب أخذ الألواح } التي كان ألقاها وقد ذهبت ستة أسباعها .
قوله تعالى : { وفي نسختها } اختلفوا فيه ، قيل أراد بها الألواح ، لأنها نسخت من اللوح المحفوظ ، وقيل : إن موسى لم ألقى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة أخرى فهو المراد من قوله : { وفي نسختها } . وقيل : أراد وفيما نسخ منها ، وقال عطاء : فيما بقي منها ، وقال ابن عباس وعمرو بن دينار : لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردت عليه في لوحين ، فكان فيه قوله تعالى : { هدىً ورحمة } أي : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب .
قوله تعالى : { للذين هم لربهم يرهبون } ، أي : للخائفين من ربهم ، واللام في { لربهم } زيادة للتوكيد ، كقوله : { ردف لكم } وقال الكسائي : لما تقدمت قبل الفعل حسنت ، كقوله : { للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] ، قال قطرب : أراد من ربهم يرهبون . وقيل : أراد راهبون . وقيل : أراد راهبون لربهم .
ثم بين - سبحانه - ما فعله موسى بعد أن هدأ غضبه فقال : { وَلَماَّ سَكَتَ . . . } .
السكوت في أصل اللغة ترك الكلام ، والتعبير القرآنى هنا يشخص الغضب كأنما هو كائن حى يدفع موسى ويحركه ، ثم تركه بعد ذلك . ففى الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص آمر ، ناه . واثبت له السكوت على طريق التخييل .
قال صاحب الكشاف : قوله : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } هذا مثل . كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، والق الألواح ، وجر برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء . ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبل شُعب البلاغة . وإلا ، فما لقراءة معاوية بن قرة " ولما سكن عن موسى الغضب " لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة ، وطرفا من تلك الروعة " .
والمعنى : وحين سكت غضب موسى بسبب اعتذار أخيه وتوبة قومه أخذ الألواح التي كان قد ألقاها .
وظاهر الآية يفيد أن الألواح لم تتكسر ، ولم يرفع من التوراة شىء ، وأنه أخذها بعينها .
وقوله { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أى : أخذ موسى الألواح التي سبق له أن ألقاها ، وفيما نسخ في هذه الألواح أى : كتب هداية عظيمة إلى طريق الحق ، ورحمة واسعة للذين هم لربهم يرهبون . أى : يخافون أشد الخوف من خالقهم - عز وجل - .
والنسخ : الكتابة ، ونسخة هنا بمعنى منسوخة أى . مكتوبة ، والمراد وفى منسوخها ومكتوبها هدى ورحمة .
و { هُمْ } مبتدأ . ويرهبون خبره ، والجملة صلة الموصول ، واللام في { لِّلَّذِينَ } متعلقة بمحذوف صفة لرحمة أى : كائنة لهم . أو هى لام العلة أى . هدى ورحمة لأجلهم . واللام في لربهم " لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله - تعالى - : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أو هى ايضا لام العلة والمفعول محذوف ، أى : يرهبون المعاصى لأجل ربهم لا للرياء والتباهى .
وكانت هذه وقفة للتعقيب على مصير الذين اتخذوا العجل وافتروا على الله ، تتوسط المشهد ثم يمضي السياق يكمل المشهد :
( ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ، وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون )
والتعبير القرآني يشخص الغضب ، فكأنما هو حي ، وكأنما هو مسلط على موسى ، يدفعه ويحركه . . حتى إذا( سكت )عنه ، وتركه لشأنه ! عاد موسى إلى نفسه ، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه . . ثم يقرر السياق مرة أخرى أن في هذه الألواح هدى ، وأن فيها رحمة ، لمن يخشون ربهم ويرهبونه ؛ فتتفتح قلوبهم للهدى ، وينالون به الرحمة . . والهدى ذاته رحمة . فليس أشقى من القلب الضال ، الذي لا يجد النور . وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين . . ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى ؛ وتوقظها من الغفلة ، وتهيئها للاستجابة والاستقامة . . إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة . ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ ولما كفّ موسى عن الغضب ، وكذلك كلّ كافَ عن شيء ساكت عنه . وإنما قيل للساكت عن الكلام ساكت : لكفه عنه . وقد ذكر عن يونس النحويّ أنه قال : يقال سكت عنه الحزن وكلّ شيء فيما زعم ومنه قول أبي النجم :
وَهمّتِ الأفْعَى بِأنْ تَسِيحَا ***وَسَكَتَ المُكّاءُ أنْ يَصِيحَا
أخَذَا الأَلْوَاحَ يقول : أخذها بعد ما ألقاها ، وقد ذهب منها ما ذهب . وفِي نُسْخَتِها هُدًى وَرَحْمَةٌ يقول : وفيما نسخ فيها : أي منها هدى بيان للحقّ ورحمة . للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يقول : للذين يخافون الله ، ويخشون عقابه على معاصيه .
واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله : لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ مع استقباح العرب أن يقال في الكلام : رهبت لك : بمعنى رهبتك ، وأكرمت لك : بمعنى أكرمتك ، فقال بعضهم : ذلك كما قال جلّ ثناؤه : إنْ كُنْتُمْ للرّؤْيا تَعْبُرُونَ أوصل الفعل باللام . وقال بعضهم : من أجل ربهم يرهبون . وقال بعضهم : إنما دخلت عقب الإضافة الذين هم راهبون لربهم وراهبو ربهم ثم أدخلت اللام على هذا المعنى لأنها عقيب الإضافة لا على التعليق . وقال بعضهم : إنما فعل ذلك لأن الاسم تقدّم الفعل ، فحسن إدخال اللام . وقال آخرون : قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله : رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ . وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال : سمعت الفرزدق يقول : نقدت له مائة درهم ، يريد نقدته مائة درهم . قال : والكلام واسع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.