قوله تعالى : { أولئك } . أي أهل هذه الصفة وأولاء : كلمة معناها الكناية عن جماعة نحوهم ، والكاف للخطاب كما في حرف ذلك .
قوله تعالى : { على هدى } . أي رشد وبيان وبصيرة .
قوله تعالى : { من ربهم وأولئك هم المفلحون } . أي الناجون والفائزون ، فازوا بالجنة ونجوا من النار ، ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم ، وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض وفي مثل : الحديد بالحديد يفلح أي يشق . فهم مقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الثمار التي ترتبت على تقواهم فقال : أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } .
المفلحون : من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية ، وأصله من الفلح - بسكون اللام - وهو الشق والقطع ، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث . وأستعمل منه الفلاح في الفوز كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه ، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت . والمعنى : أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة ، على نور من ربهم ، وأولئك هم الفائزون بما طلبوا ، الناجون مما منه هربوا ، بسبب إيمانهم العميق ، وأعمالهم الصالحة .
والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنساني ، فقد وصفهم - سبحانه - بأنهم على هدى عظيم ، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير ، إن من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم . كما يدل - أيضاً - على عظم هذا الهدى وصفه بأنه " من ربهم " فهو الذي وفقهم إليه ، ويسر لهم أسبابه . وفي قوله - تعالى - : { على هُدًى } إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشيء ، وصار في قرار راسخ منه . وجملة " وأولئك هم المفلحون " بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال ، من سعادة في الدنيا والآخرة .
وتعريف الخبر وهو { المفلحون } مع إيراد ضمير الفصل " هم " يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين ، فمن لم يؤمن بالغيب ، أو أضاع الصلاة ، أو بخل بالمال الذي منحه الله إياه فلم يؤده في وجوهه المشروعة ، فإنه لا يكون من المهتدين ، ولا من المفلحين الذين سعدوا في دنياهم وآخرتهم . قال الإمام الرازي : " وفي تكرير " { أولئك } تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح - أيضاً - فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين ، فإن قيل : فلم جيء بالعاطف ؟ وما الفرق بينه وبين قوله : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } قلنا : قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان ، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد ، وكانت الثانية مقررة لما في الأولى ، فهي من العطف بمعزل " . وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة " . . . فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى ، وهي : ذكر اسم الإشارة ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك ، ليبصرك مرتباتهم ، ويرغبك في طلب ما طلبوا ، وينشطك لتقديم ما قدموا ، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته . . . " .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بما يستحقه ، وأثنت على من اهتدوا بهديه ، ووصفتهم بالصفات السامية ، وبشرتهم بالبشارات الكريمة .
{ أُوْلََئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فقال بعضهم : عَنَى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين وبما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل ، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه وأنهم هم المفلحون . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب ، فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك : المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : أُولَئِكَ على هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
وقال بعضهم : بل عَنَى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل .
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبلُ بسائر الأنبياء والكتب .
وعلى هذا التأويل الاَخر ، يحتمل أن يكون : الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض ، ومحل رفع فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ من ذكر «الذين » . والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، ويكون : أُولَئِكَ على هُدىً مِنْ رَبّهِمْ رافعها . وأما الخفض فعلى العطف على الْمُتّقِينَ . وإذا كانت معطوفة على «الذين » اتجه لها وجهان من المعنى ، أحدهما : أن تكون هي «والذين » الأولى من صفة المتقين ، وذلك على تأويل من رأى أن الاَيات الأربع بعد الم نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين . والوجه الثاني : أن تكون «الذين » الثانية معطوفة في الإعراب على «المتقين » بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول . وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الاَيتان الأوّلتان من المؤمنين بعد قوله الم غير الذين نزلت فيهم الاَيتان الاَخرتان اللتان تليان الأوّلتين . وقد يحتمل أن تكون «الذين » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الاستئناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة . وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الاستئناف إذ كانت في مبتدأ آية وإن كانت من صفة المتقين . فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين .
وأولى التأويلات عندي بقوله : أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبّهِمْ ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس ، وأن تكون «أولئك » إشارة إلى الفريقين ، أعني المتقين وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وتكون «أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله : على هُدًى مِن رَبّهِمْ وأن تكون «الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام على ما قد بيناه .
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثم أثنى عليهم فلم يكن عزّ وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات ، كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال فيخص أحدهما بالجزاء دون الاَخر ويحرم الاَخر جزاء عمله ، فكذلك سبيل الثناء بالأعمال لأن الثناء أحد أقسام الجزاء . وأما معنى قوله : أُولَئِكَ على هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أُولَئِكَ على هُدىً مِنْ رَبّهِمْ أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
وتأويل قوله : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أي أولئك هم المُنْجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة . قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شرّ ما منه هربوا . ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :
اعْقِلِي إنْ كُنْتِ لَمّا تَعْقِلِي*** ولَقَدْ أفْلَحَ مَنْ كانَ عَقَلْ
يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا . ومنه قول الراجز :
عَدِمْتُ أُمّا وَلَدَتْ رَباحا *** جاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحا فِرْكَاحَا
تَحْسَبُ أنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجاحا*** أشْهَدُ لاَ يَزِيدُهَا فَلاحا
يعني خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح : مصدر من قولك : أفلح فلان يُفلح إفلاحا ، وفلاحا ، وفَلَحا . والفلاح أيضا البقاء ، ومنه قول لبيد :
نحُلّ بلادا كُلّها حُلّ قَبْلَنَا *** وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عادٍ وحِمْيَرِ
يريد البقاء . ومنه أيضا قول عَبيد :
أفْلِحْ بما شِئْتَ فَقَدْ يَبْلُعُ بالضّ *** عْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ أَلارِيبُ
يريد : عش وابق بما شئت . وكذلك قول نابغة بني ذبيان :
وكُلّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ *** وَإنْ أثْرَى وَإنْ لاقى فَلاحا
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله:"أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ"؛ فقال بعضهم: عَنَى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين وبما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه وأنهم هم المفلحون...
وقال بعضهم: بل عَنَى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل...
وأما معنى قوله: "أُولَئِكَ على هُدًى مِنْ رَبّهِمْ "فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم...
"وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ "أي أولئك هم المُنْجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
معنى التعريف في {المفلحون}: الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقة، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة. كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك؛ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهمّ زينا بلباس التقوى، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة.
والمفلح: الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن ابن عباس: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي: على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال: {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان عن أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال: {على هدى} أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله: {من ربهم} أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين {وأولئك} أي العالو الرتبة {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر.
قال الحرالي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى. وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم. والفلاح: الفوز والظفر بكل مراد، ونوال البقاء الدائم في الخير.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.
ههنا إشارتان والمشار إليه عند الجمهور واحد وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون. كذا قال بعضهم وهو تكلف ظاهر، وكذا قولهم: إن تنكير هدى هنا للتعظيم.
وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب، قال إن الإشارة الأولى {أولئك على هدى من ربهم} في هذه الآية للفرقة الأولى وهم الذين ينتظرون الحق لأنهم على شيء منه – كما يدل عليه تنكير "هدى "الدال على النوع – وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به، ولذلك تقبلوه عندما جاءهم. فقد أشعر الله قلوبهم الهداية، بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق، وأنفقوا مما رزقهم الله، وأما الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فعلى هدى تشرك فيه تلك الفرقة الأولى؛ لكن على وجه أكمل، لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به. وقوله {على هدى} تعبير يفيد التمكن من الشيء كتمكن المستقر عليه، كقولهم "ركب هواه" ولقد كان أفراد تلك الفرقة (أي الأولى) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذي كانوا عليه، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيلي المنزل، ولذلك قبلوه عند ما بلغتهم دعوته.
وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة {وأولئك هم المفلحون} كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة – لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا، ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل "هم" في الأولى وذكره في الثانية. ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفصل في الأولى، لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام، فهو خاص بهم دون سواهم، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح منهم. ومادة الفلح تفيد في الأصل معنى الشق والقطع... ويطلق الفلاح والفلح على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بد في تحقيق المعنى اللغوي لهذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لإدراكها، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله. وباتباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة، ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشره والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذات. كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من الفضائل وحسن المعاملة مع الناس والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ما حده الشرع القويم؛ والاستقامة على صراطه المستقيم.
وجملة القول: أن الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بالدين الإسلامي جملة وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به، فلا يسع أحدا جهله، فالإيمان به إيمان، والإسلام لله به إسلام، وإنكاره خروج من الإسلام. وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلامي وواسطة الوحدة الإسلامية، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين زاد الأستاذ هنا بخطه عند قولنا: اجتهاد المجتهدين ما نصه: [أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحري والتمحيص وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل معه، فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه، ونحو ذلك ما يطول شرحه، ويحصل الثقة للنفس بما يقول القائل]
وأقول: معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة، كصحيفة علي كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة. ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ. وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة. وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما. وأما ذوق العارفين، فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعد حجة شرعية بالإجماع، إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات، والاحتياط في تعارض البينات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين: الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة.
قوله تعالى: (أولئك) إشارة إلى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين.. فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا إلى الهدى أي إلى الطريق الموصل للإيمان.. وصلوا إلى الفلاح، وهو الهدف من الإيمان..
وقوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} تشمل الجميع..
ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى "أولئك "مرتين؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين بعضهما مع بعض؟ حتى نعرف أنه ليس في الإسلام إيمانان بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد.. وسيلته الهدى، وغايته الفلاح..
ولو نظر إلى التكليفات التي هي الهدى الموصلة إلى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى.. لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك، وإنما جاء ليرفعك..
إن السطحيين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الإنسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة.. ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الإنسان ويحفظه من الضرر، ومن غضب الله، ومن إفساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه.. لذلك قال تبارك وتعالى: {على هدى}..
و (على) تفيد الاستعلاء، فإذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه.. كأن المهتدي حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل.. ولكنه يرتفع إلى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير إلى خير.. وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الإنسان إلى أسفل..
ولذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:
{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (من الآية 24 سورة سبأ)
ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة؛ وإنما كان العلو في الهدى.. لأن المنهج قيد حركة حياتك إعزازا لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعا.. ولا تأخذ من ذاتك حركة.. وإنما يرتفع بك لتتلقى عن الله سبحانه وتعالى.. وهذا علو كبير.. ولكن عند الضلالة قال: {في ضلال}.. و (في) تدل على الظرفية المحيطة.. وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله:
{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81)} (سورة البقرة).
أحاطت به الخطيئة.. أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال.. وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذا لأنها تحكمه.. وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقا.. فالحق سبحانه وتعالى حينما قال: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.. اختار لفظا عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى إلى السامع..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
"وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" لأنَّ الفلاح والنجاح يتمثّلان في أن يعرف الإنسان طريقه جيداً في بدايته ونهايته وفي خطوات الطريق. وهذا هو الذي ينطلق منه الإنسان المسلم في الاتجاه الصحيح عقيدة وعملا.