مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

{ أولئك على هُدًى } الجملة في موضع الرفع إن كان «الذين يؤمنون بالغيب » مبتدأ وإلا فلا محمل لها ، ويجوز أن يجري الموصول الأول على «المتقين » وأن يرتفع الثاني على الابتداء و«أولئك » خبره ، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله . ومعنى الاستعلاء في «على هدى » مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونحوه «هو على الحق وعلى الباطل » وقد صرحوا بذلك في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى . ومعنى هدى { مّن رَّبّهِمُ } أي أوتوه من عنده . ونكر «هدى » ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه «لقد وقعت على لحم » أي على لحم عظيم .

{ وأولئك هُمْ المفلحون } أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا ؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو «فلق وفلز وفلى » ، وجاء العطف هنا بخلاف قوله : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل ، وهم فصل .

وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره ، أو هو مبتدأ و«المفلحون » خبره ، والجملة خبر «أولئك » فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره ، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح . وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو ؟ فقيل : زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته . وتوسيط الفصل بينه وبين «أولئك » ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا . اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة [ الآيتان : 6 ، 7 ] .

لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه ، وبيَّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى بقوله :