الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } : مبتدأٌ ، خبرهُ الجارُّ والمجرورُ بعده أي كائنون على هدى ، وهذه الجملة : إمَّا مستأنفةٌ وإمّا خبرٌ عن قوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } إمَّا الأولى وإمَّا الثانية ، ويجوز أن يكون " أولئك " وحدَه خبراً عن { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } أيضاً إمَّا الأولى أو الثانية ، ويكون " على هدى " في هذا الوجهِ في محلِّ نصب على الحالِ ، هذا كلُّه إذا أعربنا { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، أمَّا إذا جعلناه غيرَ مبتدأ فلا يَخْفَى حكمه مِمّا تقدم . ويجوز أن يكونَ { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، و " أولئك " بدلٌ أو بيانٌ ، و " على هدى " الخبرُ ، و " مِنْ ربهم " في محلِّ جرٍّ صفةً لهُدى ، ومِنْ لابتداء الغاية . ونَكَّر " هُدَى " ليفيدَ إبهامُه التعظيم كقوله :

فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى *** على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ

ورُوِيَ " مِنْ ربهم " بغير غُنَّة وهو المشهورُ ، وبغنَّة ويُروى عن أبي عمرو .

و " أولئك " : اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإِناث ، وهو مبنيٌّ على الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار ، وفيه لغتان : المدُّ والقَصْر ، ولكنَّ الممدود للبعيد ، وقد يقال : أولا لِك ، قال :

أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً *** وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أُولا لِكَا

وعند بعضهم : المقصودُ للقريب والممدودُ للمتوسط وأولا لك للبعيد ، وفيه لغاتٌ كثيرة . وكتبوا " أولئك " بزيادةِ واو قبل اللام ، قيل للفرقِ بينها وبين " إليك " .

{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } : " أولئك " مبتدأ و " هم " مبتدأ ثانٍ ، و " المفلحون " خبره ، والجملةُ خبر الأول ، ويجوز أن يكونَ " هم " فصلاً أو بدلاً ، والمفلحون : الخبر . وفائدةُ الفصل : الفرقُ بين الخبرِ والتابعِ ، ولهذا سُمِّيَ فَصْلاً ، ويفيدُ أيضاً التوكيدَ ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون " أولئك " الأولى أو الثانية خبراً عن " الذين يؤمنون " ، وتقدَّم تضعيفُ هذين القولين . وكَرَّرَ " أولئك " تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح ، فجُعِلت كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها .

وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله : { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرَيْن هنا متغايران فاقتضى ذلك العطفَ ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبريْن فيها شيءٌ واحدٌ ، لأن التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بِمَعْزِل .

قال الزمخشري : " وفي اسم الإِشارة الذي هو " أولئك " إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابِه من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم ، كقول حاتم : " وللهِ صعلوكٌ " ، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة ، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله :

فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه *** وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً

والفلاحُ أصله الشَّقُّ ، ومنه قوله : " إن الحديد بالحديد يفلح " ومنه قول بكر بن النطاح :

لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها *** إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح

ويُعَبَّرُ به عن الفوز والظفر بالبُغْيَة وهو مقصودُ الآيةِ ، ويُراد به البَقاءُ ، قال :

لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ *** أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ

وقال آخر :

نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا *** ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ

وقال :

لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ *** والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه

وقال آخر :

أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بال *** ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب