" أولئك " مبتدأ ، خبره الجار والمجرور بعده أي : كائنون على هُدًى ، وهذه الجملة : إما مستأنفة ، وإما خبر عن قوله : الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية ، ويجوز أن يكون " أولئك " وحده خبراً عن " الذين يؤمنون " أيضاً إما الأولى أو الثانية ، ويكون " على هُدًى " في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال ، هذا كله إذا أعربنا " الذين يؤمنون " مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ ، فلا يخفى حكمه مما تقدم .
ويجوز أن يكون " الذين يؤمنون " مبتدأ و " أولئك " بدل أو بَيَان ، و " على هدى " الخبر .
و " أولئك " : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث ، وهو مبني على الكَسْرِ ؛ لشبهه بالحرف في الافتقار .
وقيل : " أولاء " كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو : " هم " و " الكاف " للخطاب ، كما في حرف " ذلك " ، وفيه لغتان : المد والقصر : ولكن الممدود للبعيد ، وقد يقال : " أولالك " قال : [ الطويل ]
أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً *** وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا{[571]}
وعند بعضهم : المقصور للقريب والممدود للمتوسّط ، و " أولالك " للبعيد ، وفيه لغات كثيرة ، وكتبوا " أولئكَ " بزيادة " واو " قبل " اللام " .
قيل : للفرق بينها وبين " إليك " .
و " الهدى " الرشد والبيان والبَصِيرة .
و " مِنْ رَبِّهِمْ " في محل جر صفة ل " هدى " و " مِنْ " لابتداء الغاية ، ونكر " هدى " ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله : [ الطويل ]
فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى *** عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ{[572]}
وروي " من ربهم " بغير غُنّة ، وهو المشهور ، وبغُنّة ، ويروى على أبي عمرو ، و " أولئك " مبتدأ ، و " هم " مبتدأ ثانٍ ، و " المفلحون " خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون " هم " فصلاً أو بدلاً ، و " المفلحون " الخبر .
وفائدة الفصل : الفرق بين الخبر والتابع ، ولهذا سمي فصلاً ، ويفيد - أيضاً - التوكيد .
قال ابن الخطيب : يفيد فائدتين :
إحداهما : الدلالة على أن " الوارد " بعده خبر لا صفة .
والثاني : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان .
وقد تقدم أنه يجوز أن يكون " أولئك " الأولى ، أو الثّانية خبراً عن " الذين يؤمنون " ، وتقدم تضعيف هذين القولين . وكرر " أولئك " تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح ، فجعلت كل واحدة من الأُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها ، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرين - هنا - متغايران ، فاقتضى ذلك العطف ، وأما تلك الآية الكريمة ، فإن الخبرين فيها شيء واحد ؛ لأن التسجيل{[573]} عليهم بالغَفْلَةِ ، وتشبيههم بالأنعام{[574]} معنى واحد ، فكانت عن العَطْف بمعزل .
قال الزمخشري : وفي اسم الإشارة الذي هو " أولئك " إيذانٌ بأن ما يراد عقبه ، والمذكورين قبله أهل لاكتسابه من أجل الخِصَال التي عددت لهم ، كقول حاتم : [ الطويل ]
وَلِلَّهِ صُعْلُوكٌ . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[575]}
ثم عدَّد له فاضلة ، ثم عقَّب تعديدها بقوله : [ الطويل ]
فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ *** وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا{[576]}
و " الفلاح " أصله : الشقُّ ؛ ومنه قوله : [ الرجز ]
إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ{[577]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول بكر بن النّطاح{[578]} : [ الكامل ]
لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعة غَيْرَهَا *** إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ{[579]}
ويعبر به عن الفوز ، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية ؛ ويراد به البقاء قال : [ الرجز ]
لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ *** أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ{[580]}
نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا *** ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ{[581]}
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُوم سَعَهْ *** والْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ{[582]}
والمُفْلج - بالجيم - مثله ، ومعنى التعريف في " المُفْلِحون " الدلالة على أن المتقين هم الناس أي : أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد ، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام ؟ إن زيداً هو هو .
فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه
هذه الآية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة .
الأول : أن قوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً ، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاة والزكاة .
الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة{[583]} لذلك الحكم ، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة ، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح ، فوجب ألا يحصل الفلاح .
وأما المُرْجئة : فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية ، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً ، وإن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة ؛ لأنه لا قائل بالفرق .
قال ابن الخطيب{[584]} : والجواب أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر ، فيتساقطان .
والجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : " أولئك هم المفلحون " يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح ، ونحن نقول بموجبه ، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح ، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفاً .
وعن الثاني : أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى .
والجواب عن قول المرجئة : أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب ؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي ، واتقاء ترك الواجبات ، والله أعلم .