اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

" أولئك " مبتدأ ، خبره الجار والمجرور بعده أي : كائنون على هُدًى ، وهذه الجملة : إما مستأنفة ، وإما خبر عن قوله : الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية ، ويجوز أن يكون " أولئك " وحده خبراً عن " الذين يؤمنون " أيضاً إما الأولى أو الثانية ، ويكون " على هُدًى " في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال ، هذا كله إذا أعربنا " الذين يؤمنون " مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ ، فلا يخفى حكمه مما تقدم .

ويجوز أن يكون " الذين يؤمنون " مبتدأ و " أولئك " بدل أو بَيَان ، و " على هدى " الخبر .

و " أولئك " : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث ، وهو مبني على الكَسْرِ ؛ لشبهه بالحرف في الافتقار .

وقيل : " أولاء " كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو : " هم " و " الكاف " للخطاب ، كما في حرف " ذلك " ، وفيه لغتان : المد والقصر : ولكن الممدود للبعيد ، وقد يقال : " أولالك " قال : [ الطويل ]

أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً *** وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا{[571]}

وعند بعضهم : المقصور للقريب والممدود للمتوسّط ، و " أولالك " للبعيد ، وفيه لغات كثيرة ، وكتبوا " أولئكَ " بزيادة " واو " قبل " اللام " .

قيل : للفرق بينها وبين " إليك " .

و " الهدى " الرشد والبيان والبَصِيرة .

و " مِنْ رَبِّهِمْ " في محل جر صفة ل " هدى " و " مِنْ " لابتداء الغاية ، ونكر " هدى " ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله : [ الطويل ]

فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى *** عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ{[572]}

وروي " من ربهم " بغير غُنّة ، وهو المشهور ، وبغُنّة ، ويروى على أبي عمرو ، و " أولئك " مبتدأ ، و " هم " مبتدأ ثانٍ ، و " المفلحون " خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون " هم " فصلاً أو بدلاً ، و " المفلحون " الخبر .

وفائدة الفصل : الفرق بين الخبر والتابع ، ولهذا سمي فصلاً ، ويفيد - أيضاً - التوكيد .

قال ابن الخطيب : يفيد فائدتين :

إحداهما : الدلالة على أن " الوارد " بعده خبر لا صفة .

والثاني : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان .

وقد تقدم أنه يجوز أن يكون " أولئك " الأولى ، أو الثّانية خبراً عن " الذين يؤمنون " ، وتقدم تضعيف هذين القولين . وكرر " أولئك " تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح ، فجعلت كل واحدة من الأُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها ، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرين - هنا - متغايران ، فاقتضى ذلك العطف ، وأما تلك الآية الكريمة ، فإن الخبرين فيها شيء واحد ؛ لأن التسجيل{[573]} عليهم بالغَفْلَةِ ، وتشبيههم بالأنعام{[574]} معنى واحد ، فكانت عن العَطْف بمعزل .

قال الزمخشري : وفي اسم الإشارة الذي هو " أولئك " إيذانٌ بأن ما يراد عقبه ، والمذكورين قبله أهل لاكتسابه من أجل الخِصَال التي عددت لهم ، كقول حاتم : [ الطويل ]

وَلِلَّهِ صُعْلُوكٌ . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[575]}

ثم عدَّد له فاضلة ، ثم عقَّب تعديدها بقوله : [ الطويل ]

فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ *** وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا{[576]}

و " الفلاح " أصله : الشقُّ ؛ ومنه قوله : [ الرجز ]

إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ{[577]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومنه قول بكر بن النّطاح{[578]} : [ الكامل ]

لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعة غَيْرَهَا *** إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ{[579]}

ويعبر به عن الفوز ، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية ؛ ويراد به البقاء قال : [ الرجز ]

لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ *** أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ{[580]}

وقال : [ الطويل ]

نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا *** ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ{[581]}

وقال : [ المنسرح ]

لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُوم سَعَهْ *** والْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ{[582]}

والمُفْلج - بالجيم - مثله ، ومعنى التعريف في " المُفْلِحون " الدلالة على أن المتقين هم الناس أي : أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد ، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام ؟ إن زيداً هو هو .

فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه

هذه الآية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة .

أما الوعيديّة فمن وجهين :

الأول : أن قوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً ، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاة والزكاة .

الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة{[583]} لذلك الحكم ، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة ، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح ، فوجب ألا يحصل الفلاح .

وأما المُرْجئة : فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية ، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً ، وإن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة ؛ لأنه لا قائل بالفرق .

قال ابن الخطيب{[584]} : والجواب أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر ، فيتساقطان .

والجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : " أولئك هم المفلحون " يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح ، ونحن نقول بموجبه ، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح ، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفاً .

وعن الثاني : أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى .

والجواب عن قول المرجئة : أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب ؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي ، واتقاء ترك الواجبات ، والله أعلم .


[571]:- البيت للأعشى ينظر شرح المفصل: 10/6، ونوادر أبي زيد: ص 154، وإصلاح المنطق: ص 382، والدرر: 1/235، وسر صناعة الإعراب: 1/322، وشرح التصريح: 1/129، والصاحبي في فقه اللغة: ص 48، واللامات: ص 132، والمنصف: 1/166، 3/26، وهمع الهوامع: 1/76، الدر المصون: 1/101.
[572]:- البيت لأبي خراش الهذلي ينظر في خزانة الأدب: 5/75، 76، 78، 81، 11/47، وشرح أشعار الهذليين: 3/1226، ومجالس ثعلب: ص 151، 212، ولأبي ذؤيب الهذلي في خزانة الأدب: 5/85، 6/208، الكشاف: 1/45، الدر: 1/101.
[573]:- في أ: التمثيل.
[574]:- في أ: بالبهائم.
[575]:- جزء بيت وتمامه: ................يساور همه *** ويمضي على الأحداث والدهر مقدما ينظر ديوانه: (45)، والخزانة: 3/125، الكشاف: 1/44، والدر المصون: 1/102.
[576]:- ينظر البيت في الخزانة: 3/125، الكشاف: 1/44، والدر المصون: 1/102.
[577]:- عجز بيت وصدره: قد علمت خيلك أني الصحصح *** ...................... ينظر اللسان: (فلح)، مجمع الأمثال: 1/8، والدر المصون: 1/102.
[578]:- بكر بن النطاح الحنفي، أبو وائل، شاعر غزل، من فرسان بني حنيفة، من أهل اليمامة، انتقل إلى بغداد في زمن الرشيد، واتصل بأبي دلف العجلي، فجعل له رزقا سلطانيا عاش به إلى أن توفي، ورثاه أبو العتاهية بقوله: مات النطاح أبو وائل *** بكر، فأضحى الشعر قد ماتا. توفي سنة 192هـ. انظر فوات الوفيات: 1/79، البداية والنهاية: 10/208، الأعلام: 2/71.
[579]:- ينظر الدر المصون: 1/102.
[580]:- البيت للبيد بن ربيعة، ينظر ديوانه: (333)، المغني: (1/270)، (435)، الهمع: (1/139)، الدرر: (1/115)، القرطبي: (1/127)، الدر: (1/102).
[581]:- البيت للبيد بن ربيعة. ينظر ديوانه: 57، مجاز القرآن: 1/30، القرطبي: 1/127، الدر: 1/102.
[582]:- البيت للأضبط بن قريع. ينظر القرطبي: (1/127)، المحرر الوجيز: (1/186)، الدر: 01/102).
[583]:- العلّة تأتي بكسر العين وبفتحها: أما بالكسر: فإنها تأتي بمعنى المرض، يقال: اعتلّ العليل علة صعبة؛ من علّ يعل، واعتلّ، أي: مرض فهو عليل، وأما بالفتح: فإنها تأتي بمعنى الضرّة: وبنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتى، وإنما سميت الزوجة الثانية علّة؛ لأنها تعل بعد صاحبتها؛ ومن العلل الذي يعنى به: الشربة الثانية عند سقي الإبل، والأولى منها تسمى النهل. ويقال: هذا علة لهذا، أي: سبب، وفي حديث عائشة: "فكان عبد الرحمان يضرب رجلي بعلة الراحلة"، أي: بسببها. أما العلة عند علماء الأصول؛ فلها تعريفات كثيرة منها: الأول: أنه يراد بها: الوصف المؤثر في الأحكام لجعل الشارع لا لذاته، ومما سار على ضرب هذا التعريف الإمام الغزالي، وبعض الأصوليين. قال حجة الإسلام - قدس الله سره ونوّر ضريحه -: والعلة في الأصل: عبارة عما يتأثر المحلّ بوجوده؛ ولذلك سمي المرض علة، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق. وقال أيضا: العلة عبارة عن موجب الحكم؛ والموجب: ما جعله الشرع موجبا، مناسبا كان أو لم يكن، وهي كالعلل العقلية في الإيجاب، إلا أن إيجابها بجعل الشارع إياها موجبة لا بنفسها. وقال أيضا: والعلّة موجبة؛ أما العقلية فبذاتها، وأما الشرعية فبجعل الشرع إياها موجبة، على معنى إضافة الوجوب إليها؛ كإضافة وجوب القطع إلى السرقة، وإن كنا نعلم أنه إنما يجب بإيجاب الله - تعالى -. والثاني: أنه يراد بها: المعرف للحكم، والذين صاروا إلى هذا التعريف يجعلونها بهذا المعنى - علما - على الحكم، فمتى ما وجد المعنى المعلّل به، عرف الحكم حتى إن بعضهم صرّح بكونها كذلك؛ فقال: ما جعل علما على حكم النص، وعنوا بقولهم: "علما": الأمارة والعلامة؛ وبهذا تكون العلة أمارة على وجود الحكم في الفرع والأصل معا، أو علامة على وجوده في الفرع فقط؛ كما يرى بعض الأصوليين. كما أنهم أيضا أشاروا إلى أن العلّة غير مؤثر حقيقة، بل المؤثر في الحقيقة هو الله -تعالى - ويردّون بذلك على من يقول: إنها هي المؤثّر. وممن ذهب إلى هذا التعريف: الإمام البيضاوي، وكثير من علماء الأحناف، وبعض فقهاء الحنابلة. والثالث: أن العلة هي الوصف المؤثّر بذاته في الحكم. وبعبارة أخرى: هي الموجب للحكم بذاته؛ بناء على جلب المصالح، أو دفع المفاسد التي قصدها الشارع ، وهذا التعريف ذكره الأصوليون عن جماهير المعتزلة. قال أبو الحسين البصري في المعتمد: وأما العلة في اصطلاح الفقهاء: فهي ما أثّرت حكما شرعيا، وإنما يكون الحكم شرعيا إذا كان مستفادا من الشرع. ينظر الصحاح للجوهري: 5/1773، تهذيب اللغة للأزهري: 1/105، ترتيب القاموس: 3/350، لسان العرب: 4/3079 - 3780. البحر المحيط للزركشي: 5/111، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 3/185، نهاية السول للإسنوي: 4/53، منهاج العقول للبدخشي: 3/50، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري: ص 114، التحصيل من المحصول للأرموي: 2/222، المستصفى للغزالي: 2/287، 335، حاشية البناني: 2/231، الآيات البينات لابن قاسم العبادي: 4/32، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: ص 47، حاشية العطار على جمع الجوامع: 2/272، المعتمد لأبي الحسين: 2/246، التحرير لابن الهمام: ص 431، تيسير التحرير لأمير بادشاه: 3/302، كشف الأسرار للنسفي: 2/281، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى: 2/217، شريح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: 2/62، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين: ص 243، ميزان الأصول للسمرقندي: 2/825، إرشاد الفحول للشوكاني: ص210، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج: 3/141.
[584]:- ينظر الفخر الرازي: 2/33.