تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

ثم جمعهم جميعا ، فقال سبحانه : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فلما سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودي بهؤلاء الآيات ، قال لأخيه جدي بن أخطب : لقد سمعت من محمد كلمات أنزلهن الله على موسى بن عمران ، فقال جدي لأخيه : لا تعجل حتى تتثبت في أمره ، فعمد أبو ياسر وجدي ابنا أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وحيى بن أخطب ، وسعيد بن عمرو الشاعر ، وأبو لبابة بن عمرو ، ورؤساء اليهود ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال جدي للنبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا القاسم ، أخبرني أبو ياسر بكلمات تقولهن آنفا ، فقرأهن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال جدي : صدقتم ، أما { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } ، فنحن هم ، وأما { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } فهو كتابك ، { وما أنزل من قبلك } ، فهو كتابنا ، { وبالآخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ، فأنتم هم قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا ، وآمنتم بالجنة والنار فآيتان فينا وآيتان فيكم .

ثم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ننشدك بالله أنها نزلت عليك من السماء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أشهد بالله أنها نزلت علي من السماء" ، فذلك قوله سبحانه في يونس : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي } ( يونس : 53 ) ، يعني ويستخبرونك أحق هو ؟ قل : { إي وربي } ، ويعني بلى وربي إنه لحق . فقال جدي : لئن كنت صادقا ، فإنكم تملكون إحدى وسبعين سنة ، ولقد بعث الله عز وجل في بني إسرائيل ألف نبي كلهم يخبرون عن أمتك ولم يخبرونا كم تملكون حتى أخبرتنا أنت الآن ، ثم قال جدي لليهود : كيف ندخل في دين رجل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة ، فقال عمر بن الخطاب ، رضوان الله عليه : وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة ؟ فقال جدي : أما ألف في الحساب فواحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون سنة ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جدي : هل غير هذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم ، { المص كتاب أنزل إليك }" ( الأعراف : 1-2 ) .

فقال جدي : هذه أكبر من الأولى ، ولئن كنت صادقا ، فإنكم تملكون مائتي سنة واثنتين وثلاثين سنة ، ثم قال : هل غير هذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "{ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }" ( هود : 1 ) ، فقال جدي : هذه أكبر من الأولى والثانية ، وقد حكم وفصل ، ولئن كنت صادقا ، فإنكم تملكون أربعمائة سنة وثلاثا وستين سنة ، فاتق الله ولا تقولن إلا حقا ، فهل غير هذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "{ المر تلك آيات الكتاب }" ( الرعد : 1 ) ، فقال جدي : لئن كنت صادقا ، فإنكم تملكون سبعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة ، ثم إن جدي قال : الآن لا نؤمن بما تقول ، ولقد خلطت علينا ، فما ندري بأي قولك نأخذ ، وأيما أنزل عليك نتبع ، ولقد لبست علينا حتى شككنا في قولك الأول ، ولولا ذلك لاتبعناك .

قال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن ما أنزل على أنبيائنا حق ، وأنهم قد بينوا لنا ملك هذه الأمة ، فإن كان محمد صادقا فيما يقول ، ليجمعن له هذه السنون كلها ، ثم نهضوا من عنده ، فقالوا : كفرنا بقليله وكثيره .

فقال جدي لعبد الله بن سلام وأصحابه : أما تعرفون الباطل فيما خلط عليكم ؟ فقالوا : بلى نعرف الحق فيما يقول ، فأنزل الله عز وجل في كفار اليهود بالقرآن : { الم الله لا إله إلا هو الحي } الذي لا يموت ، { القيوم } ، يعني القائم على كل شيء ، { نزل عليك الكتاب } يا محمد { بالحق } لم ينزل باطلا ، { مصدقا لما بين يديه } ، يقول سبحانه : قرآن محمد يصدق الكتب التي كانت قبله ، { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس } ، يعني لبني إسرائيل من الضلالة ، ثم قال عز وجل : { وأنزل الفرقان } ( آل عمران : 1-4 ) ، يعني قرآن محمد بعد التوراة والإنجيل ، يعني بالفرقان المخرج من الشبهات والضلالة ، نظيرها في الأنبياء ، { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } ( الأنبياء : 48 ) ، يعني المخرج ، وفي البقرة : { وبينات من الهدى والفرقان } ( البقرة : 185 ) .

{ إن الذين كفروا بآيات الله } ، اليهود كفروا بالقرآن ، يعني هؤلاء النفر المسلمين وأصحابهم ، { لهم عذاب شديد } .

{ والله عزيز } في ملكه وسلطانه ، { ذو انتقام } ( آل عمران : 4 ) من أهل معصيته .

وأنزلت أيضا في اليهود في هؤلاء النفر وما يحسبون من المتشابه : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } ( آل عمران : 7 ) .

فأما المحكمات ، فالآيات الثلاث اللاتي في الأنعام : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } ، إلى قوله سبحانه : { لعلكم تتقون } ( الأنعام : 151-153 ) ، فهن محكمات ولم ينسخهن شيء من الكتاب ، وإنما سمين أم الكتاب ، لأن تحريم هؤلاء الآيات في كل كتاب أنزله الله عز وجل .

{ وأخر متشابهات } ، يعني : { الم } ، { المص } ، { الر } ، { المر } ، شبهوا على هؤلاء النفر من اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين ، { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ، يعني ميل عن الهدى ، وهم هؤلاء اليهود ، { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ، يعني الكفر ، { وابتغاء تأويله } ، يعني منتهى كم يملكون . يقول الله عز وجل : { وما يعلم تأويله إلا الله } ، يعني كم تملك هذه الأمة من السنين ، { والراسخون في العلم } ، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ، { يقولون آمنا به } ، يعني بالقرآن كله ، { كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } ( آل عمران : 7 ) يعني من كان له لب أو عقل .

ثم قال ابن سلام وأصحابه : { ربنا لا تزغ قلوبنا } كما أزغت قلوب اليهود { بعد إذ هديتنا } إلى الإسلام ، { وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } ( آل عمران : 8 ) .

فآيتان من أول هذه السورة نزلتا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ، والآيتان اللتان تليانهما نزلتا في مشركي العرب ، وثلاث عشرة آية في المنافقين من أهل التوراة .