غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

1

البحث السابع : في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } الآية وفيه مسائل :

الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها نوى الابتداء { بالذين يؤمنون بالغيب } على سبيل الاستئناف و{ أولئك على هدى } الجملة خبره ، كأنه لما قيل { هدى للمتقين } فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح . وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو : قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ، وتارة بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك . فيكون الاستئناف بإعادة

الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه . وثانيها : أن يجعل { الذين } و{ الذين } تابعاً للمتقين ، ويقع الاستئناف على { أولئك } كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى ؟ فقيل : أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً . وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء ، و{ أولئك } خبره ، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة ، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع ، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت . وأيضاً إنه يجعل الموصولين تابعاً والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركناً من الكلام .

الثانية : الاستعلاء في قوله { على هدى } مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم " هو على الحق وفلان على الباطل " وقد يصرح بذلك فيقال : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الحق ، واقتعد غارب الهوى . ومعنى { هدى من ربهم } أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل ، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه . ونكر { هدى } ليفيد ضرباً من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه . قال الهذلي :

فلا وأبي الطير المربة بالضحى *** على خالد لقد وقعت على لحم

أي لحم وأي لحم . وأربّ بالمكان إذا أقام به ، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضاً لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم ، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء ؟

الثالثة : في تكرير { أولئك } تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين . ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }

[ الأعراف : 179 ] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد .

الرابعة : { هم } فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره . ويحتمل أن يكون { هم } مبتدأ و{ المفلحون } خبره ، والجملة خبر { أولئك } .

الخامسة : المفلح الفائز بالبغية ، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر . وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو : فلق ، وفلذ ، ومنه سمي الزارع فلاحاً . ومعنى التعريف في { المفلحون } إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة ، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو . فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة ، فإن في ذكره إيذاناً بأن ما يرد عقيبه . فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم ، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل ، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين . قد ورد في الخبر " يحشر الناس يوم القيامة " ثم يقول الله عز وجل لهم : " طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم ، إني رفعت نسباً وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم : لا بل فلان ابن فلان ، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي ، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون " فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيئ إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين ، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس ، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله .