الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

{ أولئك على هُدًى } الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ ؛ وإلا فلا محلّ لها . ونظم الكلام على الوجهين : أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب . فقد ذهبت به مذهب الاستئناف . وذلك أنه لما قيل : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فوقع قوله : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر . وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم ، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم ، أي الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم ، أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح . ونظيره قولك : أحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، وكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة . وإن جعلته تابعاً للمتقين ، وقع الاستئناف على أولئك ؛ كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى ؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين ، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً ، وبالفلاح آجلاً . واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث ، كقولك : قد أحسنت إلى زيد ، زيد حقيق بالإحسان . وتارة بإعادة صفته ، كقولك : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك ؛ فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه .

فإن قلت : هل يجوز أن يجري الموصول الأوّل على المتقين ، وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره ؟ قلت : نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله . وفي اسم الإشارة الذي هو { أولئك } إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لهم ، كما قال حاتم : ولله صعلوك ثم عدّد له خصالاً فاضلة ، ثم عقب تعديدها بقوله :

فَذَلِكَ إنْ يَهْلِكْ فحَسْبي ثَنَاؤُهُ *** وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا

ومعنى الاستعلاء في قوله ( على هدى ) مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه ، وتمسكهم به . شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه . ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرّحوا بذلك في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى .

ومعنى { هُدًى مّن رَّبّهِمْ } أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير ، والترقي إلى الأفضل فالأفضل . ونكر { هُدًى } ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ، ولا يقادر قدره ؛ كأنه قيل : على أي هدى ، كما تقول : لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً . وقال الهذلي :

فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى *** عَلى خالِدٍ لَقدْ وَقَعتِ على لَحَم

والنون في { مِّن رَّبِّهِمْ } أدغمت بغنة وبغير غنة ، فالكسائي ، وحمزة ، ويزيد ، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها . وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو . فقد روى عنه فيها روايتان .

وفي تكرير { أولئك } تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى ، فهي ثابتة لهم بالفلاح ؛ فجعلتْ كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها .

فإن قلت : لم جاء مع العاطف ؟ وما الفرق بينه وبين قوله { أولئك كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] ؟ قلت : قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان ؛ لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد ، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل .

و { هُمْ } فصل : وفائدته : الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة ، والتوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره . أو هو مبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة خبر أولئك .

ومعنى التعريف في { المفلحون } : الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك ، فاستخبرت من هو ؟ فقيل زيد التائب ، أي هو الذي أخبرت بتوبته . أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم ، وتصوّروا بصورتهم الحقيقة ، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة . كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام ؟ إن زيداً هو هو . فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى ، وهي : ذكر اسم الإشارة ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ؛ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا ، وينشطك لتقديم ما قدموا ، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته . اللهمّ زينا بلباس التقوى ، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة . والمفلح : الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه . والمفلج بالجيم مثله . ومنه قولهم للمطلقة : استفلحي بأمرك بالحاء والجيم . والتركيب دال على معنى الشق والفتح ، وكذلك أخواته في الفاء والعين ، نحو : فلق ، وفلذ ، وفلى .