فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

هذا كلام مُستأنف استئنافاً بيانياً ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل : { أولئك على هُدًى } ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب الخ فيكون متصلاً بما قبله . قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله { على هُدًى } مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرّحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد عارب الهوى انتهى . وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف . واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها ( الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف ) فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام .

قال ابن جرير : إن معنى { أولئك على هُدًى من ربّهِمْ } على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، و { المفلحون } أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله . هذا معنى كلامه . والفلاح أصله في اللغة : الشقّ والقطع ، قاله أبو عبيد ويقال : الذي شقت شفته أفلح ، ومنه سمي الأكَّار فلاحاً لأنه شقّ الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة ، فمعنى { أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون بالجنة والباقون . وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه . انتهى . وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم » . قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور . فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً . وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أنَّ كلاً من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حاله . وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره .

وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب ، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال : { أولئك على هُدًى مّن ربّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } وقد قدمنا الإشارة إلى هذا ، وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة .

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال : فقال ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال " { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ } إلى قوله : { المُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة " قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ، ثم قال " { إِنَّ الذين كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ } إلى قوله : { عظِيمٌ } هؤلاء أهل النار " قالوا : ألسنا هم يا رسول الله ؟ قال : " أجل "

وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث . منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابيّ فقال : يا نبيّ الله إن لي أخاً وبه وجع فقال " وما وجعه ؟ " قال : به لمم ، قال : " فائتني به ، فوضعه بين يديه ، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات ومن أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين " { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] ، وآية من الأعراف { إِنَّ رَبَّكُمُ الله } [ الأعراف : 54 ] ، وآخر سورة المؤمنين { فتعالى الله الملك الحق } [ المؤمنون : 116 - 118 ] ، وآية من سورة الجنّ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } [ الجن : 3 ] ، وعشر آيات من أوّل الصافات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، و { قل هو الله أحد } [ الأخلاص : 1 ] والمعوّذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ » . وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله .

وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق . وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال : «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أوّلها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث خواتمها أوّلها متصل { للَّهِ مَا فِى السموات } [ البقرة : 284 ] . وأخرج سعيد بن منصور ، والدارمي ، والبيهقي عن المغيرة بن سبيع ، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ، وأسرعوا به إلى قبره ، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة " وقد ورد في ذلك غير هذا .