هذا كلام مُستأنف استئنافاً بيانياً ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل : { أولئك على هُدًى } ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب الخ فيكون متصلاً بما قبله . قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله { على هُدًى } مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرّحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد عارب الهوى انتهى . وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف . واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها ( الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف ) فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام .
قال ابن جرير : إن معنى { أولئك على هُدًى من ربّهِمْ } على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، و { المفلحون } أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله . هذا معنى كلامه . والفلاح أصله في اللغة : الشقّ والقطع ، قاله أبو عبيد ويقال : الذي شقت شفته أفلح ، ومنه سمي الأكَّار فلاحاً لأنه شقّ الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة ، فمعنى { أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون بالجنة والباقون . وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه . انتهى . وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم » . قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور . فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً . وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أنَّ كلاً من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حاله . وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره .
وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب ، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال : { أولئك على هُدًى مّن ربّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } وقد قدمنا الإشارة إلى هذا ، وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة .
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال : فقال ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال " { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ } إلى قوله : { المُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة " قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ، ثم قال " { إِنَّ الذين كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ } إلى قوله : { عظِيمٌ } هؤلاء أهل النار " قالوا : ألسنا هم يا رسول الله ؟ قال : " أجل "
وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث . منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابيّ فقال : يا نبيّ الله إن لي أخاً وبه وجع فقال " وما وجعه ؟ " قال : به لمم ، قال : " فائتني به ، فوضعه بين يديه ، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات ومن أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين " { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] ، وآية من الأعراف { إِنَّ رَبَّكُمُ الله } [ الأعراف : 54 ] ، وآخر سورة المؤمنين { فتعالى الله الملك الحق } [ المؤمنون : 116 - 118 ] ، وآية من سورة الجنّ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } [ الجن : 3 ] ، وعشر آيات من أوّل الصافات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، و { قل هو الله أحد } [ الأخلاص : 1 ] والمعوّذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ » . وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله .
وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق . وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال : «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أوّلها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث خواتمها أوّلها متصل { للَّهِ مَا فِى السموات } [ البقرة : 284 ] . وأخرج سعيد بن منصور ، والدارمي ، والبيهقي عن المغيرة بن سبيع ، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ، وأسرعوا به إلى قبره ، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة " وقد ورد في ذلك غير هذا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.