{ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ، أولئك المتقدمة ، وأولئك المتأخرة ، والواو مقحمة ، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن ، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع ، إما للنصب ، وإما للرفع ، وهذه الصفة جاءت للمدح .
أولئك : اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث .
والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك ، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى ، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غير حرف الخطاب ، بخلاف أولالك .
ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه .
وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك ، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وبالكسر على أصل التقائهما .
الفلاح : الفوز والظفر بإدراك البغية ، أو البقاء ، قيل : وأصله الشق والقطع :
وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو : فلى وفلق وفلذ ، تقدم في إعراب { الذين يؤمنون بالغيب } ، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين ، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان ، ويمتنع الوصف لكونه أعرف .
ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله : { على هدى } ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو كان مجروراً أو منصوباً ، كان أولئك مبتدأ خبره { على هدى } ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به ، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به .
وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم ، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان بالمنزل ، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل ، وذوو فلاح في الآجل .
ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، فكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة ، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين ، كما استأنف بصفة الأنصار .
وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى ، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى ، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله : { على هدى } ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين ، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق ، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم ، أي كائن من ربهم ، تعظيم للهدى الذي هم عليه .
ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة ، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية ، فجعلهم في الدنيا على هدى ، { وفي الآخرة هم المفلحون } .
وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى .
ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف ، أي من هدى ربهم .
وقرأ ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء ، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء ، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ .
وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا ، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة ، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة .
ولما اختلف الخبران كما ذكرنا ، أتى بحرف العطف في المبتدأ ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول ، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { أولئك هم الغافلون } بعد قوله : { أولئك كالأنعام } كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى ؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خبراً عن أولئك ، أو المبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة من قوله : هم المفلحون في موضع خبر أولئك ، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو .
وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات ، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن ، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه ، أو من يتوهم التشريك فيه .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى ، وأنه هو أمات وأحيا } { وأنه هو أغنى وأقنى } وقوله : { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } { وأنه أهلك عاداً الأولى } كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر ، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد ، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه .
وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك ، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ .
وأما قوله تعالى : { وأنه هو رب الشعرى } فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم ، وإن كان رب كل شيء ، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً ، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود ، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد .
والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن ، وذلك أنك إذا قلت : زيد المنطلق ، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق ، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه ، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له : زيد المنطلق ، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها ، ودخلت هو فيه إذا قلت : زيد هو المنطلق ، لتأكيد النسبة ، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.