البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

{ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ، أولئك المتقدمة ، وأولئك المتأخرة ، والواو مقحمة ، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن ، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع ، إما للنصب ، وإما للرفع ، وهذه الصفة جاءت للمدح .

أولئك : اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث .

والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك ، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى ، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غير حرف الخطاب ، بخلاف أولالك .

ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه .

وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك ، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وبالكسر على أصل التقائهما .

الفلاح : الفوز والظفر بإدراك البغية ، أو البقاء ، قيل : وأصله الشق والقطع :

إن الحديد بالحديد يفلح***

وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو : فلى وفلق وفلذ ، تقدم في إعراب { الذين يؤمنون بالغيب } ، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين ، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان ، ويمتنع الوصف لكونه أعرف .

ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله : { على هدى } ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو كان مجروراً أو منصوباً ، كان أولئك مبتدأ خبره { على هدى } ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به ، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به .

وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم ، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان بالمنزل ، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل ، وذوو فلاح في الآجل .

ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، فكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة ، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين ، كما استأنف بصفة الأنصار .

وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى ، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى ، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله : { على هدى } ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين ، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق ، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم ، أي كائن من ربهم ، تعظيم للهدى الذي هم عليه .

ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة ، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية ، فجعلهم في الدنيا على هدى ، { وفي الآخرة هم المفلحون } .

وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى .

ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف ، أي من هدى ربهم .

وقرأ ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء ، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء ، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ .

وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا ، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة ، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة .

ولما اختلف الخبران كما ذكرنا ، أتى بحرف العطف في المبتدأ ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول ، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { أولئك هم الغافلون } بعد قوله : { أولئك كالأنعام } كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى ؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خبراً عن أولئك ، أو المبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة من قوله : هم المفلحون في موضع خبر أولئك ، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو .

وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات ، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن ، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه ، أو من يتوهم التشريك فيه .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى ، وأنه هو أمات وأحيا } { وأنه هو أغنى وأقنى } وقوله : { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } { وأنه أهلك عاداً الأولى } كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر ، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد ، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه .

وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك ، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ .

وأما قوله تعالى : { وأنه هو رب الشعرى } فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم ، وإن كان رب كل شيء ، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً ، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود ، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد .

والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن ، وذلك أنك إذا قلت : زيد المنطلق ، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق ، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه ، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له : زيد المنطلق ، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها ، ودخلت هو فيه إذا قلت : زيد هو المنطلق ، لتأكيد النسبة ، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة .

5

/خ20