قوله تعالى : " لا أقسم بيوم القيامة " قيل : إن " لا " صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة ؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حكم كلام واحد ؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى ، كقوله تعالى : " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون{[15599]} " [ الحجر : 6 ] . وجوابه في سورة أخرى : " ما أنت بنعمة ربك بمجنون{[15600]} " [ القلم : 2 ] . ومعنى الكلام : أقسم بيوم القيامة ، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ، ومثله قول الشاعر :
تذكرت ليلَى فاعترتني صَبَابَةٌ *** فكاد صميمُ القلبِ لا يَتَقَطَّعُ
وحكى أبو الليث السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى " لا أقسم " : أقسم . واختلفوا في تفسير : " لا " قال بعضهم : " لا " زيادة في الكلام للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة ( لا ) كما قال في آية أخرى : " قال ما منعك أن تسجد " [ ص : 75 ] . يعني أن تسجد ، وقال بعضهم : " لا " : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم .
قلت : وهذا قول الفراء . قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون " لا " صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم ( في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ{[15601]} ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل " فلا " رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه . وأنشد غير الفراء لامرئ القيس :
فلا وأبيك ابنةَ العامري *** لا يَدَّعِي القومَ أني أَفِرّْ
ألا نادت أمامةُ باحتمال *** لتُحزنني فلا بِكِ ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد . قال الفراء : وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ " لأقسم " بغير ألف ، كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم ، وهو صواب ؛ لأن العرب تقول : لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز " بيوم القيامة " أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء .
سورة القيامة{[1]}
مقصودها الدلالة على عظمة المدثر المأمور بالإنذار صلى الله عليه وسلم لعظمة مرسله سبحانه وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان{[2]} بعد الرسوم{[3]} بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة لما أودعه [ الله-{[4]} ] من وضوح{[5]} المعاني وعذوبة الألفاظ وجلالة النظوم{[6]} ورونق السبك وعلو المقاصد ، فهو لذلك معشوق لكل طبع ، معلوم ما خفي من أسراره{[7]} وإشاراته بصدق النية وقوة العزم بحيث يصير بعد كشفه إذا أثر {[8]}كأنه كان{[9]} منسيا بعد حفظه فذكر { فمن شاء ذكره } فحفظه{[10]} وعلم معانيه وتخلق بها ، وإنما المانع عن ذلك مشيئة الله تعالى ، فمن شاء حجبه عنه أصلا ورأسا ، ومن شاء حجبه عن{[11]} بعضه ، ومن شاء كشف عنه الحجاب ، وجعله يعينه على أعظم صواب ، دون شك ولا ارتياب ، وجلى عليه أوانسه وعرائسه وحباه جواهره ونفائسه ، وحلاه به ؛ فكان ملكه وسائسه ، كما كان{[12]} المدثر صلى الله عليه وسلم حين كان خلقه القرآن ، واسمها القيامة واضح في ذلك جدا ، وليس فيها ما يقوم بالدلالة عليه غيره إذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه " لا " النافية للقسم أو المؤكدة مع أنها في الوضوح في حد لا يحتاج إلى الإقسام [ عليه-{[13]} ] لأنه لا يوجد أحد يدع من تحت يده يعدو بعضهم على بعض ، ويتصرفون فيما حولهم فيه من غير حساب ، فكيف بأحكم الحاكمين الذي وكل بعبيده أضعافهم من الملائكة فهم يريدون في كل لحظة فيهم كؤوس المنايا ، ويأخذون من أمرهم به سبحانه إلى داره{[14]} البرزخ للتهيئة للعرض ويسوقونهم زمرا بعد زمر إلى العود في الأرض حتى ينتهي الجمع في القبور ، ويقيمهم بالنقر{[15]} في الناقور ، والنفخ في الصور ، إلى ساحة الحساب للثواب و{[16]}العقاب ، / ولم يحجب عن علم ذلك حتى ضل عنه أكثر الخلق إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر شديدة اللوم عن الإقصار عن{[17]} شيء منه كما أن ما جلاه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان خلقه ، ولمن أراد من أتباعه إلا إرادته سبحانه بتغليب{[18]} المطمئنة حتى صار الكل روحا صرفا [ و-{[19]} ] نورا خالصا بحتا { بسم الله } الذي شرف رسوله صلى الله عليه وسلم فأعجز الخلق بكتابه بما له من الجلال { الرحمن } الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان أهل الهدى والضلال { الرحيم* } الذي خص أهل العناية بالسداد في الأقوال والأفعال .
لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة{[70067]} المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه ، ثم أعاد أمرها آخرها ، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها ، وكان الكفار يكذبون بها ، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات ، وكانت{[70068]} العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع حلف على ما أخبره به ، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد ، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا-{[70069]} معاند ، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها{[70070]} وإثبات أمرها بعدم{[70071]} الإقسام أو تأكيده : { لا أقسم } أي لا أوقع{[70072]} الإقسام أو أوقعه{[70073]} مؤكداً { بيوم القيامة * } على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر{[70074]} غني فيه عن ذلك-{[70075]} وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنافي ، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً ، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان : والله إن الله موجود ، أي لا شيء أحلف به على وجوده - يا أيها المنكر - أعظم منه حتى-{[70076]} أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه ، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين{[70077]} الشيئين فلذا أوقع القسم بهما{[70078]} ، وسر التأكيد ب " لا " -{[70079]} كما قال الرازي في اللوامع ، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً ، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر .