اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القيامة

مكية ، وهي تسع وثلاثون آية ، [ وهي في المصحف أربعون آية ] ومائة وسبع وتسعون كلمة ، وستمائة واثنان وخمسون حرفا .

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } .

العامَّة : على «لاَ » نافية ، واختلفوا حينئذ فيها على أوجه :

أحدها : أنَّها نافية لكلامٍ تقدم ، كأنَّ الكفَّار ذكروا شيئاً ، فقيل لهم : «لا » ثم ابتدأ الله قسماً .

قال القرطبي{[58615]} رحمه الله : «إنَّ القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالردِّ عليهم كقوله : " والله لا أفعل " ف " لا " ردٌّ لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة . لحق ، كأنك أكذبت قوماً أنكروه » .

والثاني : أنها مزيدة . قال الزمشخري : قالوا : إنها مزيدة ، مثلها في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، وفي قوله - عز وجل - : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقوله : [ الرجز ]

4978 - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ{[58616]} *** . . .

قال ابن الخطيب{[58617]} : وهذا القولُ عندي ضعيفٌ من وجوه :

أحدها : أنَّ تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن ، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً ، والإثبات نفياً ، وذلك ينفي الاعتماد على الكلام نفياً وإثباتاً .

وثانيها : أن الحرف إنما يزاد في وسط الكلام ، فإن امرأ القيس زادها في مستهل قصيدته ؛ وهي قوله : [ المتقارب ]

4979 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابنَةَ العَامِرِيْ*** يِ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرْ{[58618]}

وأيضاً : هَبْ أنَّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنَّ القرآن كله كالسُّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى { وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [ القلم : 2 ] ، وإذا كان كذلك ، كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام .

والجواب عن الأول : أنَّ قوله : لا وأبيك ، قسمٌ عن النفي ، وقوله : «لا أقْسِمُ » نفي للقسم ، لأنه على وزان قولنا : «لا أقبل ، لا أضرب ، لا أنصر » وذلك يفيد النفي ، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرُّ بترك القسم ، والحنث بفعل القسم ، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب .

وعن الثاني : أن القرآن الكريم كالسُّورة الواحدة في عدم التناقض ، فإما أن يقرن في كل آية ما أقرن في الأخرى ، فذلك غير جائز ؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات ، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً ، وأنه لا يجوز .

وثالثها : أن المراد من قولنا : «لا » صلة أنَّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله{[58619]} - تعالى - بذلك لا يجوز .

الوجه الثالث : قال الزمشخري : «إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم ؛ قال امرؤ القيس : [ المتقارب ]

4980 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابْنَةَ العَامِري{[58620]} *** . . .

البيت المتقدِّم .

وقال غويةُ بنُ سلمَى : [ الوافر ]

4981 - ألاَ نَادتْ أمَامةُ باحْتِمَالِ*** لتَحْزُننِي فلا بِكِ ما أبَالِي{[58621]}

وفائدتها : توكيد القسم في الردِّ " . ثمَّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم : والوجه أن يقال : هي للنَّفي ، والمعنى في ذلك : أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ إعظاماً له ، يدلُّك عليه قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75 - 76 ] فكأنه بإدخال حرف النَّفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام ، يعني أنه يستأهل فوق ذلك .

وقيل : إنَّ " لا " نفيٌ لكلامٍ ورد قبل ذلك انتهى .

قال ابن الخطيب{[58622]} : كأنَّهُم أنكروا البعث فقيل : " لا " ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثم قيل : أقسم بيوم القيامة .

قال : وهذا فيه إشكال ؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى : { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام .

قال شهاب الدين{[58623]} رحمه الله : " فقول الزمخشري : والوجه أن يقال إلى قوله : يعني أنه يستأهل فوق ذلك ، تقرير لقوله : إدخال " لا " النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية ، وأنَّ النَّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه ، وليس فيه منع لفظاً ولا معنى » .

ثم قال : فإن قلت : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، فهلا زعمت أنَّ «لا » التي قبل القسم زيدت موطِّئة للنَّفي بعده ، ومؤكدة له ، وقدَّرت المقسم عليه المحذوف - هاهنا - منفياً كقولك : لا أقسم بيوم القيامة لا تتركُونَ سُدًى ؟ .

قلت : لو قصَرُوا الأمر على النَّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقصر ، ألا ترى كيف نفى { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] بقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } [ البلد : 4 ] وكذلك قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] بقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] ، وهذا من محاسن كلامه تعالى .

وقرأ قنبل والبزِّي - بخلاف عنه{[58624]} - : «لأقسم » بلام بعدها همزة دون ألف ، وفيها أوجه :

أحدها : أنها جوابٌ لقسم مقدر ، تقديره : «والله لأقسم » والفعل للحالِ ، فلذلك لم تأت نونُ التوكيد ، وهذا مذهبُ الكوفيين .

وأمَّا البصريون : فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جواباً للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبراً لمبتدإ مضمر ، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها وهذا عند بعضهم ، من ذلك التقدير : والله لأنا أقسم .

الثاني : أنه فعل مستقبل ، وإنَّما لم يأتِ بنون التوكيدِ ؛ لأنَّ أفعال الله - تعالى - حقٌّ وصدقٌ فهي غنيةٌ عن التأكيد بخلاف أفعال غيره ، على أن سيبويه حكى حذف النون ، إلا أنه قليل ، والكوفيون : يجيزون ذلك من غير قلَّة ، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله : [ الكامل ]

4982 - وقَتيلُ مُرَّة أثْأرنَّ فإنَّهُ*** فَرْغٌ وإنَّ أخَاكمُ لَمْ يَثْأرِ{[58625]}

أي لأثأرن ، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر : [ الطويل ]

4983 - لَئِن تَكُ قَدْ ضَاقتْ عليكَم بُيوتكُمْ*** ليَعلمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ{[58626]}

الثالث : أنَّها لامُ الابتداء ، وليست بلام القسم .

قال أبو البقاء : كقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 164 ] . والمعروف أنَّ لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلاَّ في خبر «إنَّ » نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 164 ] وهذه الآية نظير الآية التي في سورة يونس : { وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ } [ يونس : 16 ] فإنهما قرآها بغير الألف . والكلام فيها قد تقدم .

ولم يختلف في قوله : «ولاَ أقسم » أنه بالألف بعد «لا » ؛ لأنه لم يرسم إلاَّ كذا بخلاف الأول ، فإنه رسم بدون ألفٍ بعد «لا » ، وكذلك في قوله تعالى { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] لم يختلف فيه أنه بألف بعد «لا » ، وجواب القسم محذوف ، تقديره : لتبعثنّ ، دل عليه قوله { أَيَحْسَبُ الإنسان } [ القيامة : 3 ] .

وقيل : الجواب : «أيَحْسَبُ » .

وقيل : هو { بلى قَادِرِينَ } [ القيامة : 4 ] ، ويروى عن الحسن البصري .

وقيل : المعنى على نفي القسم ، والمعنى : إنِّي لا أقسم على شيء ، ولكن أسألك أيحسب الإنسان .

وهذه الأقوال شاذَّة منكرة ، ولا تصح عن قائلها لخروجها عن لسان العرب ، وإنما ذكرناها تنبيهاً على ضعفها .

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس وابن جبير : معنى الكلام : أقسمُ بيوم القيامة{[58627]} ، وهو قول أبي عبيدة ، ومثله قوله : [ الطويل ]

4984 - تَذكَّرْتُ لَيْلَى فاعْترتْنِي صَبَابَةٌ*** فَكادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتقطَّعُ{[58628]}

قوله : { بِيَوْمِ القيامة } ، أي : بيوم يقوم الناس فيه لربِّهم ، والله - عز وجل - أن يقسم بما شاء ،


[58615]:الجامع لأحكام القرآن 19/60.
[58616]:الرجز للعجاج في ديوانه 1/20، والأزهية ص 154، والأشباه والنظائر 2/164 وخزانة الأدب 4/51، 52، 53، وشرح المفصل 8/136، ولسان العرب (حور)، وجمهرة اللغة ص 525، والخصائص 2/477، وإعراب القرآن للنحاس 5/78.
[58617]:ينظر الرازي 30/189.
[58618]:تقدم.
[58619]:في أ: الباري.
[58620]:تقدم.
[58621]:ينظر جواهر الأدب ص 253، والخصائص 2/19، ورصف المباني ص 146، وسر صناعة الإعراب 1/104، 144، وشرح المفصل 8/34، 9/101، والصاحبي في فقه اللغة ص 107، واللسان (أهل)، واللمع ص 58، 256.
[58622]:الفخر الرازي 30/190.
[58623]:الدر المصون 6/425.
[58624]:ينظر: السبعة 661، والحجة 6/343، وإعراب القراءات 2/414، وحجة القراءات 435.
[58625]:تقدم.
[58626]:تقدم.
[58627]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/325) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/463) عنه وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[58628]:ينظر القرطبي 19/60.