الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة القيامة مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة القيامة مكية بالإجماع.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

ويقال لها سورة" لا أقسم"...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد، والإيقاعات واللمسات، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه.. تحشدها بقوة، في أسلوب خاص، يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا، سواء في أسلوب الأداء التعبيري، أو أسلوب الأداء الموسيقي، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا!

إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة، وإيقاع عن النفس: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة).. ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة، من المطلع إلى الختام، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي. وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة، بطريقة دقيقة جميلة..

من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه.. حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي، فلا يملك لها ردا، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا. وهي تتكرر في كل لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعاف، ويقف الجميع منها موقفا واحدا.. لا حيلة. ولا وسيلة. ولا قوة. ولا شفاعة. ولا دفع. ولا تأجيل.. مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا. ولا مفر من الاستسلام لها، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا.. وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول: (كلا! إذا بلغت التراقي، وقيل: من راق؟ وظن أنه الفراق. والتفت الساق بالساق.. إلى ربك يومئذ المساق)..

ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا.. وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلى الله، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الأخرى، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟) ثم تقول في آخرها: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين: الذكر والأنثى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟)..

ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية.. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب، واستهانة بها ولجاج في الفجور. فيجيء الرد في إيقاعات سريعة، ومشاهد سريعة، وومضات سريعة: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه. يسأل: أيان يوم القيامة؟ فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ كلا! لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر. بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره!)..

ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول. ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله، وبالرجاء فيه، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب. وهو مشهد يعرض فيه قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن. وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة، وإهمالهم للآخرة. وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون: (كلا! بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة. وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة. ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة!)..

وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول [صلى الله عليه وسلم] وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن. ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها. إذ كان الرسول [صلى الله عليه وسلم] يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه؛ وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه. فجاء هذا التعليم: (لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه).. جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي، وحفظ هذا القرآن، وجمعه، وبيان مقاصده.. كل أولئك موكول إلى صاحبه. ودوره هو، هو التلقي والبلاغ. فليطمئن بالا، وليتلق الوحي كاملا، فيجده في صدره منقوشا ثابتا.. وهكذا كان.. فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل.. أليس من قول الله؟ وقول الله ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب.. ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي اتجاه.. وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] لم يخرم منها حرف، ولم تند منها عبارة. فهو الحق والصدق والتحرج والوقار!

وهكذا يشعر القلب -وهو يواجه هذه السورة- أنه محاصر لا يهرب. مأخوذ بعمله لا يفلت. لا ملجأ له من الله ولا عاصم. مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى. ثم ذهب إلى أهله يتمطى)..

وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف: (أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى) فيكون له وقعه ومعناه!

وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه. وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن، شأن القيامة، وشأن النفس وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق. ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف، لأنه من كلام العظيم الجليل، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته، وتثبت في سجل الكون الثابت، وفي صلب هذا الكتاب الكريم.

وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان. وهي في نسق السورة شيء آخر. إذ أن تتابعها في السياق، والمزاوجة بينها هنا وهناك، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة، ثم العودة إليه بالجانبالآخر بعد فترة.. كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري؛ مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر، ولا طريقة أخرى..

فلنأخذ في مواجهة السورة كما هي في سياقها القرآني الخاص:

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراضها:

اشتملت على إثبات البعث.

والتذكير بيوم القيامة وذكر أشراطه.

وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناس في الدنيا.

واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة.

والتذكير بالموت وأنه أول مراحل الآخرة.

والزجر عن إيثار منافع الحياة العاجلة على ما أعد لأهل الخير من نعيم الآخرة.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة توكيد لمجيء يوم القيامة وبرهنة على قدرة الله على بعث الناس، وتنبيه لهم بأن أعمالهم محصاة، وبيان لمصائرهم حسب سلوكهم. وتنديد باستغراق من يستغرق في الحياة ويهمل واجباته نحو الله والناس. وفيها آيات تتصل بظروف الوحي القرآني وتحتوي دلالة خطيرة في سوره.

وأسلوب آياتها يمكن أن يعتبر عرضا عاما وإنذارا وتبشيرا وتنديدا عاما أيضا.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة:

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلاّ بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور:

المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

-الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان وربط ذلك بمسألة المعاد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ"...

قال بعضهم «لا» صلة، وإنما معنى الكلام: أقسم بيوم القيامة.

وقال آخرون منهم: بل دخلت «لا» توكيدا للكلام... كقوله: لا والله...

إن الله أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوّامة، وجعل «لا» ردّا لكلام قد كان تقدّمه من قوم، وجوابا لهم... لأن المعروف من كلام الناس في محاوراتهم إذا قال أحدهم: لا والله، لا فعلت كذا، أنه يقصد بلا ردّ الكلام، وبقوله: والله، ابتداء يمين.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

ومعنى قوله: (لا) أي: ليس الأمر كما يزعمون أن لا بعث ولا جنة ولا نار.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إدخال «لا» النافية على فعل القسم

والوجه أن يقال: هي للنفي. والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدلك عليه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 -76]، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إنّ إعظامي له بإقسامي به كَلَا إعظام؛ يعني أنه يستأهل فوق ذلك.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ويمكن تقدير هذا القول على وجوه أخر:

(أحدها) كأنه تعالى يقول: {لا أقسم} بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإن هذا المطلوب أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء، ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه.

(وثانيها) كأنه تعالى يقول: {لا أقسم} بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإن إثباته أظهر وأجلى وأقوى وأحرى، من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهوله.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيًا، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه، ثم أعاد أمرها آخرها، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها، وكان الكفار يكذبون بها، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات، وكانت العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع، حلف على ما أخبره به، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا- معاند، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها وإثبات أمرها بعدم الإقسام أو تأكيده: {لا أقسم} أي لا أوقع الإقسام أو أوقعه مؤكداً {بيوم القيامة} على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر غني فيه عن ذلك- وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنافي، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان: والله إن الله موجود، أي لا شيء أحلف به على وجوده -يا أيها المنكر- أعظم منه حتى- أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين الشيئين فلذا أوقع القسم بهما، وسر التأكيد ب "لا " -كما قال الرازي في اللوامع، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر؛ وهذا الوقع هو المقصود من العبارة، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن.. ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة.

وحقيقة القيامة سيرد عنها الكثير في مواضعه في السورة.