أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

{ أولئك على هدى من ربهم } الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له فكأنه لما قيل { هدى للمتقين } قيل ما بالهم خصوا بذلك ؟ فأجيب بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } إلى آخر الآيات . وإلا فاستئناف لا محل لها ؟ فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة . أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى ؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان ، فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة ، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه ، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له . ومعنى الاستعلاء في { على هدى } تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه ، وقد صرحوا به في قولهم : امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى . وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل . ونكر هدى للتعظيم . فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره ، ونظيره قول الهذلي :

فلا وأبي الطير المربة بالضحى *** على خالد لقد وقعت على لحم

وأكد تعظيمه بأن الله تعالى مانحه والموفق له ، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة .

{ وأولئك هم المفلحون } كرر فيه اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم ، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } ، فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف . وهم : فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ، ويفيد اختصاص المسند إليه ، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك . والمفلح بالحاء والجيم : الفائز بالمطلوب ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق . والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة . أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم .

تنبيه : تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى ، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم ، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم ، لا عدم الفلاح له رأسا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )

وقوله تعالى : { أولئك } إشارة إلى المذكورين ، و «أولاء » جمع «ذا » ، وهو مبني على الكسرة لأنه ضَعُفَ لإبهامه عن قوة الأسماء ، وكان أصل البناء السكون فحرك( {[175]} ) لالتقاء الساكنين ، والكاف للخطاب ، و «الهدى » هنا( {[176]} ) الإرشاد . و { أولئك } الثاني ابتداء ، و { المفلحون } خبره ، و { هم } فصل ، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون { هم } ابتداء ، و { المفلحون } خبره ، والجملة خبر { أولئك } .

والفلح( {[177]} ) الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد( {[178]} ) : [ الرمل ] .

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي . . . ولقد أفلح من كان عقلْ

وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء ، كقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونرجو الفلاحَ بَعْدَ عادٍ وحمْيَرِ ( {[179]} )

وكقول الأضبط : [ المنسرح ]

لِكُلّ همٍّ من الهموم سَعَهْ . . . والصُّبْحُ والمسى لا فلاح معه( {[180]} )

والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية ، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين .


[175]:- أي وكانت الحركة كسرة لما ذكره المؤلف رحمه الله.
[176]:- سبق له في شرح [اهدنا الصراط المستقيم] أن الهدى في هذه الآية معناها خلق الإيمان في القلب، إلا أنه قال هناك: الهدى تتصرف في الكلام على وجوه وكلها ترجع إلى معنى الإرشاد، فقوله: [على هدى] أي على نور وبصيرة، بإرشاده تعالى وتوفيقه، وفي قوله تعالى: [من ربهم]، دون أن يقال من أنفسهم رد على القدرية والمعتزلة.
[177]:- الفَلح: لغة في الفلاح.
[178]:- راجع ديوانه.
[179]:- هو للبيد بن ربيعة- وصدر البيت: نحِلُّ بلادا كلها حل قبلنا......
[180]:- هو الأضبط بن قريع السعدي وبعد البيت المذكور: فصل حبال البعيد إن وصل الحبْل وأقْص القريب إن قطعه لا تحقرن الفقير علك أن تركع يوما والدهر قــد رفــعه وارض من الدهر ما أتاك به من يرض يوما بعيشه نفعه قد يجمع المال غير آكلـــــــه ويأكل المال غير من جمعه ومعنى البيت الأول: إنه ليس مع كر الليل والنهار بقاء.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله:"أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ"؛ فقال بعضهم: عَنَى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين وبما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه وأنهم هم المفلحون...

وقال بعضهم: بل عَنَى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل...

وأما معنى قوله: "أُولَئِكَ على هُدًى مِنْ رَبّهِمْ "فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم...

"وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ "أي أولئك هم المُنْجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معنى التعريف في {المفلحون}: الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقة، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة. كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك؛ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهمّ زينا بلباس التقوى، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة.

والمفلح: الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

عن ابن عباس: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي: على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال: {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان عن أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال: {على هدى} أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله: {من ربهم} أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين {وأولئك} أي العالو الرتبة {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر.

قال الحرالي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى. وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم. والفلاح: الفوز والظفر بكل مراد، ونوال البقاء الدائم في الخير.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.

ههنا إشارتان والمشار إليه عند الجمهور واحد وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون. كذا قال بعضهم وهو تكلف ظاهر، وكذا قولهم: إن تنكير هدى هنا للتعظيم.

وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب، قال إن الإشارة الأولى {أولئك على هدى من ربهم} في هذه الآية للفرقة الأولى وهم الذين ينتظرون الحق لأنهم على شيء منه – كما يدل عليه تنكير "هدى "الدال على النوع – وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به، ولذلك تقبلوه عندما جاءهم. فقد أشعر الله قلوبهم الهداية، بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق، وأنفقوا مما رزقهم الله، وأما الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فعلى هدى تشرك فيه تلك الفرقة الأولى؛ لكن على وجه أكمل، لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به. وقوله {على هدى} تعبير يفيد التمكن من الشيء كتمكن المستقر عليه، كقولهم "ركب هواه" ولقد كان أفراد تلك الفرقة (أي الأولى) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذي كانوا عليه، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيلي المنزل، ولذلك قبلوه عند ما بلغتهم دعوته.

وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة {وأولئك هم المفلحون} كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة – لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا، ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل "هم" في الأولى وذكره في الثانية. ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفصل في الأولى، لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام، فهو خاص بهم دون سواهم، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح منهم. ومادة الفلح تفيد في الأصل معنى الشق والقطع... ويطلق الفلاح والفلح على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بد في تحقيق المعنى اللغوي لهذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لإدراكها، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله. وباتباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة، ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشره والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذات. كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من الفضائل وحسن المعاملة مع الناس والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ما حده الشرع القويم؛ والاستقامة على صراطه المستقيم.

وجملة القول: أن الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بالدين الإسلامي جملة وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به، فلا يسع أحدا جهله، فالإيمان به إيمان، والإسلام لله به إسلام، وإنكاره خروج من الإسلام. وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلامي وواسطة الوحدة الإسلامية، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين زاد الأستاذ هنا بخطه عند قولنا: اجتهاد المجتهدين ما نصه: [أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحري والتمحيص وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل معه، فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه، ونحو ذلك ما يطول شرحه، ويحصل الثقة للنفس بما يقول القائل]

وأقول: معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة، كصحيفة علي كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة. ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ. وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة. وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما. وأما ذوق العارفين، فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعد حجة شرعية بالإجماع، إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات، والاحتياط في تعارض البينات.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين: الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

قوله تعالى: (أولئك) إشارة إلى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين.. فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا إلى الهدى أي إلى الطريق الموصل للإيمان.. وصلوا إلى الفلاح، وهو الهدف من الإيمان..

وقوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} تشمل الجميع..

ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى "أولئك "مرتين؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين بعضهما مع بعض؟ حتى نعرف أنه ليس في الإسلام إيمانان بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد.. وسيلته الهدى، وغايته الفلاح..

ولو نظر إلى التكليفات التي هي الهدى الموصلة إلى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى.. لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك، وإنما جاء ليرفعك..

إن السطحيين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الإنسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة.. ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الإنسان ويحفظه من الضرر، ومن غضب الله، ومن إفساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه.. لذلك قال تبارك وتعالى: {على هدى}..

و (على) تفيد الاستعلاء، فإذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه.. كأن المهتدي حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل.. ولكنه يرتفع إلى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير إلى خير.. وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الإنسان إلى أسفل..

ولذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:

{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (من الآية 24 سورة سبأ)

ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة؛ وإنما كان العلو في الهدى.. لأن المنهج قيد حركة حياتك إعزازا لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعا.. ولا تأخذ من ذاتك حركة.. وإنما يرتفع بك لتتلقى عن الله سبحانه وتعالى.. وهذا علو كبير.. ولكن عند الضلالة قال: {في ضلال}.. و (في) تدل على الظرفية المحيطة.. وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله:

{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81)} (سورة البقرة).

أحاطت به الخطيئة.. أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال.. وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذا لأنها تحكمه.. وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقا.. فالحق سبحانه وتعالى حينما قال: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.. اختار لفظا عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى إلى السامع..

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

"وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" لأنَّ الفلاح والنجاح يتمثّلان في أن يعرف الإنسان طريقه جيداً في بدايته ونهايته وفي خطوات الطريق. وهذا هو الذي ينطلق منه الإنسان المسلم في الاتجاه الصحيح عقيدة وعملا.