{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي إنا خلقنا كل شيء مقدرا مرتبا على مقتضى الحكمة ، أو مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده ، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبرا لا نعتا ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر ، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإضمار لما فيه من النصوصية على المقصود .
خلقناه بقدر : بتقدير سابق ، أو خلقناه مقدّرا محكما .
28- { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
كل شيء في هذا الكون أبدع الله صنعه ، وأحكم تقديره على مقتضى الحكمة البالغة ، والنظام الشامل وبحسب السنن التي وضعها في الخليقة .
قال تعالى : { وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا } . ( الفرقان : 2 ) .
وقال عز شأنه : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . ( الأعلى : 1-3 ) .
وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها ، وكتابته – أي تسجيله – لها قبل حدوثها .
أخرج الإمام أحمد ، ومسلم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدَر ، حتى العجز والكسل " xii .
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قدَّر الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " xiii .
وأخرج أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا غلام ، إني أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، جفت الأقلام وطويت الصحف " xiv .
إذا تأملنا في هذا الكون البديع المنظم أدركنا أن يد القدرة البالغة وراء التناسق والتكامل بين أجزاء الكون وما فيه .
فالسماء والنجوم والكواكب والمجرات ، والشمس والقمر والليل والنهار ، والأرض والبحار والأنهار ، والجبال والهواء والفضاء ، كل هذه المخلوقات على آية من الإبداع والتناسق والتكامل ، بحيث تصيح وهي صامته : إن يد القدرة الإلهية التي أبدعت كل شيء ، وخلقت النجوم بقدر في مجراتها ومسيراتها ، إلى حدّ أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يودي بهذه الحياة كلّها ، أو لا يسمح أصلا بقيامها ، فحجم الأرض وكتلتها وبعدها عن الشمس ، وكتلة هذه الشمس ، ودرجة حرارتها ، وميل الأرض على محورها بهذا القدر ، وسرعتها في دورانها حول نفسها وحول الشمس ، وبُعْد القمر عن الأرض ، وحجمه وكتلته ، وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض . . . إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديرا ، لو وقع الاختلال في أيّ منها لتبدّل كل شيء ، ولكانت هي النهاية المقدَّرة لعمر الحياة على هذه الأرض .
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } . ( سورة فاطر : 41 ) .
سبحان من بيده ملكوت السماوات والأرض ، وسبحان من بيده الخلق والأمر ، وهو على كل شيء قدير .
قال تعالى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } . ( الإسراء : 12 ) .
وستجد في أعقاب تفسير سورة ( القمر ) إن شاء الله ضميمة في بيان النظام البديع في هذا الكون .
قال تعالى : { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } . ( السجدة : 6-7 )
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي مقدرا محكما ، مستوفى فيه ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار التكوين ؛ وهو كقوله تعالى : " وخلق كل شيء فقدره تقديرا " {[340]} . والقدر : اسم لما صدر عن القادر مقدرا . يقال : قدرت الشيء وقدرته – بالتخفيف والتثقيل – بمعنى واحد . أو المعنى : خلقناه مقدرا مكتوبا في اللوح قبل حدوثه ؛ فهو بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء . وقال النووي : القدر تقدير الله الأشياء في القدم ، وعلمه تعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه ، وعلى صفات مخصوصة ؛ فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى . اه . وفي شرح المواقف : قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال . وقدره : إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها . وقد ناقشه محشيه المولى حسن جلبي ، واختار : أن القضاء هو الفعل مع الإتقان ؛ بحيث يأتي على ما تقتضيه الحكمة . والقدر : تحديد كل محدود بحده الذي يوجد به .
{ إِنَّا كُلَّ شيء } من الأشياء { خلقناه بِقَدَرٍ } أي مقدراً مكتوباً في اللوح قبل وقوعه ، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء ، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف ، وروى الإمام أحمد . ومسلم . والترمذي . وابن ماجه عن أبي هريرة قال : «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت { يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر : 48 ، 49 ] » وأخرج البخاري في «تاريخه » . والترمذي وحسنه . وابن ماجه . وابن عدي . وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية " أنزلت فيهم آية في كتاب الله { إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] إلى آخر الآيات ، وكان ابن عباس يكره القدرية جداً ، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس وقد ذكر القدرية يقول : لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال : الزنا بقدر . والسرقة بقدر . وشرب الخمر بقدر .
وأخرج عن مجاهد أنه قال ؛ قلت لابن عباس : ما تقول فيمن يكذب بالقدر ؟ قال : أجمع بيني وبينه قلت : ما تصنع به ؟ قال : أخنقه حتى أقتله ، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة ، منها ما أخرجه أحمد . وأبو داود . والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم " . وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدراً محكماً مستوفى فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين ، فالآية من باب { وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] ونصب { كُلٌّ } بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه ، وقرأ أبو السمال قال : ابن عطية . وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء ، وجملة { خلقناه } هو الخبر ، و { بِقَدَرٍ } متعلق به كما في القراءة المتواترة ، فتدل الآية أيضاً على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة ، ويجعل الخبر { بِقَدَرٍ } لاختلاف القراءتين معنى حينئذ ، والأصل توافق القراآت ، وقال الرضى : لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصب { كُلٌّ } أو رفعته وسواء جعلت { خلقناه } صفة مع الرفع ، أو خبراً عنه ، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها ، وحينئذ نقول : إن معنى { كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } على أن خلقناه هو الخبر { كُلٌّ } مخلوق مخلوق { بِقَدَرٍ } وعلى أن { خلقناه } صفة { كُلّ شَىْء } مخلوق كائن { بِقَدَرٍ } والمعنيان واحد إذ لفظ { كُلٌّ } في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان { خلقناه } صفة له أو خبراً ، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول : إذا جعلنا { خلقناه } صفة كان المعنى { كُلٌّ } مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر ، وعلى هذا لا يمتنع نظراً إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم ، وأما إذا جعلناه خبراً أو نصبنا { كُلّ شَىْء } فلا مجال لهذا الاحتمال نظراً إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعاً ولا يجديه نفعاً أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا احتمال فيه ، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصاً في المقصود اتفقت القراآت المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه .
{ إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ } : أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكاناً لا يتخلف في شيء من ذلك .
وقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه تعالى وهو أن كل حادث يحدث في هذا العالم قد سبق به علم الله وتقديره له فحَدَّد ذاته وصفاته وأعماله ومآله إلى جنة أو إلى نارٍ ، إن كان إنسانا أو جانا وليس هناك شيء يحدث بدون تقدير سابق له وعلم تام به قبل حدوثه .
ويقال لهم : { ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر } يعني : ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ ، قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له .
أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أنبأنا مسلم بن غالب بن علي الرازي ، أنبأنا أبو معشر يعقوب بن عبد الجليل بن يعقوب ، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أنبأنا أحمد بن نصر النيسابوري ، أنبأنا عبد الله بن الوليد العدني ، أنبأنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال : جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية : { إن المجرمين في ضلال وسعر } إلى قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد شريك الشافعي الخدشاهي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجويدري ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وكان عرشه على الماء " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني قال : أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : كل شيء بقدر الله ، قال وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، أو الكيس والعجز " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أنبأنا أحمد بن حازم بن أبي عروة أنبأنا يعلى بن عبيد ، وعبد الله بن موسى وأبو نعيم عن سيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر زاد عبد الله خيره وشره " . ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال : عن ربعي عن علي ولم يقل : عن رجل ، وهذا أصح .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظاهر كمال قدرته وحكمته فقال : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } .
وقوله : { كُلَّ } منصوب بفعل يفسره ما بعده ، والقدر : ما قدره الله - تعالى - على عباده ، حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .
أى : إنا خلقنا كل شىء فى هذا الكون ، بتقدير حكيم ، وبعلم شامل ، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب ، كما قال - تعالى - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وكما قال - سبحانه - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وكما قال - عز وجل - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة ، على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه بالأشياء قبل كونها . وردوا بهذه الآية وبما شاكلها ، وبما ورد فى معناها من أحاديث على الفرقة القدرية ، الذين ظهروا فى أواخر عصر الصحابة .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجه عن ابى هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
والباء فى قوله { بِقَدَرٍ } للملابسة . أى : خلقناه ملتبسا بتقدير حكيم ، اقتضته سنتنا ومشيئتنا فى وقت لا يعلمه أحد سوانا .
قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } يعني : إن كل شيء من الأشياء مخلوق بتقدير الله وقضائه السابق في علمه ، المكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه . وبذلك فإن قدر الله سابق لخلقه . وقدره معناه علمه الأشياء قبل أن تقع . أي أن الله قدر الأشياء وعلم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، فلا يحدث شيء أو حدث في الوجود إلا وهو صادر عن علم الله تعالى وقدرته وإرادته . فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " .
وفي الحديث الصحيح : " استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل : قدر الله وما شاء فعل ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان " وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك ، جفت الأقلام وطويت الصحف " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا كل شيء خلقناه بقدر} يقول: قدر الله لهم العذاب ودخول سقر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ "يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدّرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله جلّ ثناؤه، توعّد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنا كل شيء خلقناه بقَدَر} يحتمل وجوها:
أحدها: على التقديم والتأخير، أي إنا قدّرنا كل شيء خلقناه. فيكون كقوله تعالى: {خالق كل شيء} [لأنعام: 102 و...]...
والثالث: على ظاهر ما جرى به الخطاب: {إنا كل شيء خلقناه بقَدَر} أي إنا كل شيء نُقدّره...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} قال الحسن: قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له، وقال الربيع: هو كقوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3] أي أجلا لا يتقدم ولا يتأخر، وقال ابن عباس: إنّا كل شيء جعلنا له شكلا يوافقه ويصلح له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال: خلقناه بقدر ما عَلِمْنا وأردْنا وأخبرْنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: خلقنا كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة. أو مقدّراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{خلقناه بقدر} أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة...
وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة -فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو {ولو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148]
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{إنا كل شيء خلقناه بقدر} أي بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبباتها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن ذلك الأخذ في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة. وما كان قبلهما من رسالات ونذر، ومن قرآن وزبر. وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود.. إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة. لا شيء جزاف. لا شيء عبث. لا شيء مصادفة. لا شيء ارتجال: (إنا كل شيء خلقناه بقدر).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلالتها وسلّطنَاه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإِصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة. والخَلْق أصله: إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازاً على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى: {وتخلقون إفكاً} [العنكبوت: 17]. فإطلاقه في قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. والقدَر: بتحريك الدال مرادف القدْر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها. والمراد: أن خلْق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب. وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] فترى هذه الآيات وأشباهها تُعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإِنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} بعد قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} [القمر: 43] وسيقول: {ولقد أهلكنا أشياعكم} [القمر: 51]. فالباء في {بقدر} للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل {خلقناه} لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإِعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإِعلام به بَلْه تأكيده، بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يستلزمه معنى القَدر أن كل شيء مخلوق هو جارٍ على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعلُ القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولَّداتُها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدَر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإِيمان: وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال عياض في « الإِكمال» « ظاهره أن المراد بالقدر هنا مرادُ الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية» اه. وقال الباجي في « المنتقَى»: « يحتمل من جهة اللغة معاني: أحدها: أن يكون القَدَر ههنا بمعنى مقدر لا يُزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدراً} [الطلاق: 3].
والثاني: أن المراد أنه بقدرته، كما قال: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4].
والثالث: بقَدر، أي نخلقه في وقته، أي نقدّر له وقتاً نخلقه فيه» اه.
قلت: وإذ كان لفظ (قدر) جنساً، ووقع معلّقاً بفعل متعلق بضمير {كل شيء} الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاماً للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فَخَلْقُه بقدر، وسبب النزول لا يخصص العموم، ولا يناكد موقعَ هذا التذييل على أن السلف كانوا يطلقون سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عَدُّوه من السبب.