ولما ختم سبحانه هذه الجملة الاعتراضية بما ابتدأها به وبما ختم به ما قبلها من كلام الخليل عليه الصلاة والسلام ، وزاد هذا ما ترى من التهديد الشديد ، شرع في إكمال قصته عليه الصلاة والسلام دالاً على أنه لا أحد يعجزه ، ولا يقدر على نصر أحد من عذابه الأليم ، مشيراً إلى أنهم سببوا عن قوله ضد ما يقتضيه إيذاناً بالعناد ، والإصرار على سوء الاعتقاد ، فقال : { فما كان جواب قومه } أي الذين يرجى قبولهم لنصحه علماً منهم بوفور شفقته وعظم أمانته ونصيحته { إلا أن قالوا } بأعظم فظاظة { اقتلوه } أي بالسيف { أو حرقوه } أي بالنار .
ولما استقر رأي الجميع على هذا الثاني ، ولم يكن له فيهم نصير ، أشار إليه سبحانه بقوله ناسقاً له على ما تقديره : فأبى المعظم القتل لأنه عذاب مألوف لمن يستحقه من المجرمين ، وهو قد عمل عملة مفردة في الدهر فالذي ينبغي أن يخص العذاب عليها بعذاب لم يعهد مثله وهو الإحراق على هيئة غريبة ، فرجعوا عن القتل واستقر رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملأ ما بين الجبال ، وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال ، وقذفوه فيها بالمنجنيق { فأنجاه الله } بما له من كمال العظمة إنجاء وحيّاً من غير احتياج إلى تدريج { من النار } أي من إحراقها وأذاها ، ونفعته بأن أحرقت وثاقه .
ولما اشتملت قصته بهذا السياق على دلائل واضحات ، وأمور معجزات ، عظم أمرها سبحانه بقوله مؤكداً لمزيد التنويه بذكرها ، وتنزيلاً لهم في توقفهم عما دعت إليه الآيات الظاهرة من الإيمان منزلة المنكر لها : { إن في ذلك } أي ما ذكر من أمره وما خللت به قصته من الحكم { لآيات } أي براهين قاطعة في الدلالة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني ، لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مر عليها من طائر ، ومع رؤية ذلك لم يؤمنوا ولم يقدروا على ضرره بشيء غير ذلك .
ولما كان ما للشيء إنما هو في الحقيقة ما ينفعه ، وكان قد حجبها سبحانه بالشهوات والحظوظ الشاغلة عن استعمال نور العقل ، قال : { لقوم يؤمنون* } أي يقبلون على استعمال نور العقل الذي وهبهموه الله فيصدقون بالغيب حتى صار الإيمان -بكثرة ما صقلوا مرائي قلوبهم بالنظر في أسبابه - لهم خلقاً بحيث إنهم في كل لحظة يجددون الترقي في مراتبه ، والتنقل في أخبيته ومضاربه .
قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } ما كان لقوم إبراهيم المشركين من حجة أو برهان على صدق عبادتهم إلا السفه والحماقة والتعصب . إنهم لا يملكون أيما دليل يقولونه لإبراهيم ؛ إذ دعاهم إلى عبادة الله وحده وأراد تبصيرهم بحقيقة هذه الأصنام التي يعبدونها على أنها حجارة صماء لا تضر ولا تنفع ، ولا تعقل ولا تسمع . لم يكن جوابهم إلا أن قال بعضهم لبعض : { اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } وذلك جواب المستكبرين العتاة الذين أُفرغت أذهانهم من كل منطق أو حجة فما يملكون إلا الخطاب في اغترار وصلف وعجرفة . وذلك هو ديدن الطغاة والمتسلطين المفلسين من الناس ، الذين يستضعفون المؤمنين ويستذلونهم أيما استذلال . وهم إذا خاطبهم أمين رشيد يروم هدايتهم واستقامتهم ؛ انتفخت أوداجهم غضبا واستكبارا وراحوا يتهددون ويتوعدون . وهكذا كان قوم إبراهيم ؛ إذ قالوا فيما بينهم متشاورين متمالئين { اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } مبالغة في التحريق . فقد ألقوه في نار متأججة مستعرة تأتي على ما يلج فيها ؛ ليصير إلى رماد لولا أن الله أنجاه بفضله ورحمته { فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لم يتأذَّ إبراهيم من النار ؛ إذ جعلها الله عليه بردا وسلاما . فقد كان في تنجيته من النار دلالات ظاهرة على قدرة الله البالغة ، وعبرة لكل ذي عقل وبصر . وهي عبرة قائمة ، وعظة مكشوفة يتدبرها المؤمنون المصدقون في كل زمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.