نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتٗاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

{ مثل الذين } .

ولما كان دعاء غير الله مخالفاً لقويم العقل ، وصريح النقل ، وسليم الفطرة وصحيح الفكرة فكان ذلك يحتاج إلى تدرب إلى الجلافة ، وتطبع في الكثافة ، قال : { اتخذوا } أي تكلفوا أن أخذوا .

ولما كانت الرتب تحت رتبته سبحانه لا تحصى ، وكل الرتب دون رتبته ، قال منبهاً على ذلك بالجار : { من دون الله } أي الذي لا كفوء له ، فرضوا بالدون ، عوضاً عمن لا تكفيه الأوهام والظنون { أولياء } ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها ، في الضعف والوهي { كمثل العنكبوت } الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال ؛ ثم استأنف ذكر وجه الشبه وعبر عنها بالتأنيث وإن كانت تقال بالتذكير تعظيماً لضعفها ، لأن المقام لضعف ما تبنيه فقال : { اتخذت بيتاً } أي تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى ، ويحميها البلا ، كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم لينفعوهم ، ويحفظوهم بزعمهم ويرفعوهم ، فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره ، وتعبها الشديد في شأنه ، في غاية الوهن .

ولما كان حالها في صنعها حال من ينكر وهنه ، قال مؤكداً : { وإن } و واوه للحال من ضمير - { اتخذت } أي والحال أنه أوهن - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر للتعميم فقال : { أوهن البيوت } أي أضعفها { لبيت العنكبوت } التي عانت في حوكه ما عانت وقاست في نسجه ما قاست ، لأنه لا يكنّ من حر ، ولا يصون من برد ، ولا يحصن عن طالب ، كذلك ما اتخذ هؤلاء من هذه الأوثان ، وهذا الدين الذي لا أصل له فهو أوهن الأديان وأهونها { لو كانوا يعلمون* } أي لو كان لهم نوع ما من العلم لانتفعوا به فعلموا أن هذا مثلهم ، فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتٗاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 42 ) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } .

مثل وما بعده ، مبتدأ ، وخبره الكاف في قوله : { كمثل } {[3568]} والأولياء : جمع ومفرده الولي . ومعناه المحب والصديق والنصير . ومنه المولى وهو الحليف والرب والناصر والمنعم{[3569]} .

وهذا مثل ضربه الله المشركين من الناس الذين يتخذون لهم من دون الله أنصارا وأعوانا ومتبوعين يتولونهم ويركنون إليهم ويحبونهم كحب الله أو أشد ، فيتوجهون إليهم بالعبادة والخضوع والامتثال أو الإذعان الوجداني بالإحساس والمشاعر . وهم في ذلك يبتغون عندهم النصرة والعون والتأييد ويرجون منهم تحصيل ما يشتهون من منافع وحاجات دنيوية ؛ كالجاهات والدرجات والعزة ووافر الأموال .

على أن الأولياء المقصودين أصناف متعددة ومختلفة ، منها : الأصنام والأوثان . ومنها : الثراء الفاحش والأموال الطائلة ، ومنها : حب الشهرة والاستعلاء والظهور ، ومنها : الساسة الطغاة والمتجبرون من الحكام وأولي السطوة والسلطان . وغير ذلك من وجوه الأنداد والمعبودين الذين يتخذهم الضعفاء والخائرون والغافلون آلهة من دون الله يلجئون إليهم ، ويثوون إلى جانبهم تمام الثواء ويركنون إلى سلطانهم وجاههم تمام الركون ، ويحومون من حول حماهم وحصونهم حوم الذباب على الفتات المتساقط ؛ هؤلاء هم المشركون السفهاء والمغفلون والواهمون يتزاحمون من حول متبوعيهم ومعبوديهم على اختلاف أسمائهم ومسمياتهم ؛ إذ يخاطبونهم في هوان وضَعَة وخَوَر ويتحدثون إليهم أحاديث المرذولين الخانعين . أولئك جميعا مثلهم { كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا } والعنكبوت في ذاته من الحشرات الصغيرة الضعيفة ، يصنع لنفسه بيتا رقيقا مهلهلا وفي غاية البساطة والهوان . وهو نسيج من خيوط واهية متشابكة هشة لا تصون ثاويا ، ولا تحمي مستكنا ، ولا ترد عما بداخله أيما أذى أو ضُر . وهو بيت هزيل ومضطرب وفي غاية الهشاشة لا يدفع عن صاحبه حر الشمس اللافحة ، ولا يصد عنه قرَّ البرد القارس اللاسع . وهو قوله : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } من الوهن وهو الضعف . لا جرم أن بيت العنكبوت بخيوطه الرقيقة الواهية لهو غاية البساطة والضعف . وهو في هذا الحال من الهوان والبساطة لا يقي العنكبوت بداخله من الأذى ولا يحميه من عبث العابثين ولا يصد عنه أيما اختراق من ماء أو ريح أو شمس . فهو بداخله غير مصون ولا مكين .

وتلك هي حال الأتباع من المشركين الواهمين الذين يلهثون وراء معبوديهم من الأصنام والأنداد على اختلاف أجناسهم وأسمائهم ؛ إنهم لا يجدون في كنفهم وحماهم غبر الفشل والخذلان والخسران ، وسوف لا يبوءون من وراء استجدائهم غير الذلة والابتئاس .

قوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لو كان هؤلاء المشركون الذين اتخذوا من دون الله أندادا آلهة يعلمون أن عبادتهم لا قيمة لها ، وأن الذين ركنوا إليهم من المعبودين أشبه ببيت العنكبوت الواهن الهزيل ، لما اتخذوا من دون الله أولياء .


[3568]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 245.
[3569]:القاموس المحيط ج 4 ص 404، وأساس البلاغة ص 689.