نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية ، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه ، فربما أضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس ، بما له عندهم من القبول ، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل ، وبما للشيطان في ذلك من التزيين ، وكان الجدال يورث الإحن ، ويفتح أبواب المحن ، فيحمل على الضلال ، قال تعالى عاطفاً على { اتل } مخاطباً لمن ختم الآية بخطابهم تنزيهاً لمقامه صلى الله عليه وسلم عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك ، لأنه ليس في طبعه المجادلة ، والمماراة والمغالبة : { ولا تجادلوا أهل الكتاب } أي اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين ، أو يزيد في اليقين ، أو يرد أحداً عن ضلال مبين { إلا بالتي } أي بالمجادلة التي { هي أحسن } أي بتلاوة الوحي الذي أمرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط ، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى :

( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن }[ الإسراء : 53 ] .

ولما كان كل من جادل منهم في القرآن ظالماً ، كان من الواضح أن المراد بمن استثنى في قوله تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } أي تجاوزوا في الظلم بنفي صحة القرآن وإنكار إعجازه مثلاً وأن يكون على أساليب الكتب المتقدمة ، أو مصدقاً لشيء منها ، أو بقولهم :{ ما أنزل الله على بشر من شيء }[ الأنعام : 91 ] ونحو هذا من افترائهم ، فإن هؤلاء يباح جدالهم ولو أدى إلى جلادهم بالسيف ، فإن الدين يعلو ولا يعلى عليه .

ولما نهى عن موجب الخلاف ، أمر بالاستعطاف ، فقال : { وقولوا آمنا } أي أوقعنا الإيمان { بالذي أنزل إلينا } أي من هذا الكتاب المعجز { وأنزل إليكم } من كتبكم ، يعني في أن أصله حق وإن كان قد نسخ منه ما نسخ ، وما حدثوكم به من شيء ليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، فإن هذا أدعى إلى الإنصاف ، وأنفى للخلاف .

ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين ، أتبعه بما يجمعهما فقال : { وإلهنا وإلهكم } ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد به الله ، لأن المسلمين لا يعبدون غيره ، وكان جميع الفرق مقرين بالإلهية ولو بنوع إقرار لم تدع حاجة إلى أن يقول { إله } كما في بقية الآيات فقال : { واحد } أي لا إله لنا غيره وإن ادعى بعضكم عزيراً والمسيح { ونحن له } خاصة { مسلمون* } أي خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس ، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فنكون حينئذ قد خضعنا لهم وتكبرنا عليه فأوقعنا الإسلام في غير موضعه ظلماً .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

قوله تعالى : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 ) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ } تجادلوا : من الجدل ، والجدال بمعنى الخصومة{[3573]} وهذا أمر من الله لعباده المؤمنين بمجادلة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى { بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي باللين والملاطفة وبالجميل من القول . وهو الدعاء إلى دين الإسلام بإظهار آياته وحججه والتنبيه على جماله وكماله وصلوحه للبشرية . وهذه هي سبيل المسلمين وطريقتهم في دعوة الناس إلى دين الله ؛ وذلك بحسن الحديث وجميل الخطاب ، وبالمودة والرفق ، في غير ما غلطة ولا فظاظة ولا مخاشنة .

هذا سبيل المسلمين ؛ إذ يدعون الناس إلى منهج الإسلام يدعونهم بالحجة الظاهرة والمنطق والود ويظهرون لهم حقيقة الإسلام وما بني عليه من سماحة العقيدة وإشراقها وموافقتها للفطرة الإنسانية ، وما تضمنه من قواعد وأركان تتفق وطبيعة الإنسان وتنسجم مع مكوناته النفسية والروحية والعقلية والبدنية ، وتدعو في جملتها إلى الرحمة والخير والعدل والمساواة بين بني البشر .

قوله : { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } المراد بالذين ظلموا : الذين نصبوا للمسلمين الحرب وجاهروا بالعداوة والتصدي لمنهج الله بالعدوان والمكايدة ، وأبوا إلا أن يتمالئوا على الإسلام بالتشويه والتشكيك والتنفير والافتراء ، وعلى المسلمين بالعدوان ليقتلوهم أو يستذلوهم ويضعفوهم . وهؤلاء ظالمون معتدون ، فما ينبغي للمسلمين أن يعاملوه بالحسنى ، أو يركنوا إلى مجادلتهم بالرفق ؛ إذ لا يجدي معهم غير سبيل القوة والتخويف دفعا لأذاهم وشرورهم عن الإسلام والمسلمين .

قوله : { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } يأمر الله المؤمنين –إذ حدثهم أهل الكتاب عما حوته كتبهم مما يمكن أن يكونوا فيه صادقين أو يكونوا فيه كاذبين- أن يقولوا لهم : { آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي صدقنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم في التوراة والإنجيل ، ومعبودنا ومعبودكم واحد لا شريك له ، ونحن له مستسلمون مذعنون بالطاعة والخضوع .

وبذلك إذا أُخبر المسلمون بما لا علم لهم به من التوراة والإنجيل مما لا يحتمل الحق والصدق أو التحريف والباطل فإنهم لا يبادرون إلى تصديقه أو تكذيبه ؛ لأنه قد يكون حقا وقد يكون باطلا ، بل إنهم يعلنون عن إيمانهم بهما إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو كونه منزل من عند الله ، غير مبدَّل ولا محرَّف . وفي هذا روى البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : { آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .


[3573]:مختار الصحاح ص 96، وأساس البلاغة ص 85.