نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

ثم زاد طمأنينته بقوله : { اسلك } أي ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة { يدك في جيبك } أي القطع الذي في ثوبك وهو الذي تخرج منه الرأس ، أو هو الكم ، كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرر ، تنسلك على لونها وما هي عليه من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته ، وأخرجها { تخرج بيضاء } أي بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات { من غير سوء } أي عيب من حريق أو غيره ، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس ، فالآية من الاحتباك .

ولما كان ذلك لا يكون آية محققة لعدم العيب إلا بعودها بعد ذلك إلى لون الجسد قال : { واضمم إليك } أي إلى جسدك . ولما كان السياق للتأمين من الخوف ، عبر بالجناح ، لأن الطائر يكون آمناً عند ضم جناحه فقال : { جناحك } أي يدك التي صارت بيضاء ، والمراد بالجناح في آية طه الإبط والجانب لأنه لفظ مشترك { من الرهب } أي من خشية أن تظنها معيبة تخرج كما كانت قبل بياضها في لون جسدك - هذا على أن المراد بالرهب الخوف الذي بهره فأوجب له الهرب ، ويجوز أن يكون المراد بالرهب الكم ، فيكون إدخالها في الفتى - التي ليست موضعها بل الرأس - للبياض ، وإدخالها في الكم - الذي هو لها - لرجوعها إلى عادتها ، وفي البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقال : وما من خائف بعد موسى عليه الصلاة والسلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه . وأظهر بلفظ الجناح من غير إضمار تعظيماً للمقام وتنبيهاً على أن عودها إلى حالها الأول آية مستقلة ، وعبر عنها بلفظ الجناح تنبيهاً على الشكر بتعظيم نفعها .

ولما تم كوناً آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال : { فذانك } أي العصا واليد البيضاء ، وشدد أبو عمرو وابن كثير ورويس تقوية لها لتعادل الأسماء المتمكنة ، وذكر لزيادة التقوية { برهانان } أي سلطانان وحجتان قاهرتان { من ربك } أي المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره { إلى } أي واصلان ، أو أنت مرسل بهما إلى { فرعون وملئه } كلما أردت ذلك وجدته ، لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحفرة فقط ، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله مؤكداً تنبيهاً على ان إقدامه على الرجوع إليهم فعل من يظن أنهم رجعوا عن غيهم ، وإعلاماً بمنه عليه بالحماية منهم بهذه البراهين : { إنهم كانوا } أي جبلة وطبعاً { قوماً } أي أقوياء { فاسقين* } أي خارجين عن الطاعة ، فإذا رأوا ذلك هابوك ، فلم يقدروا على الوصول إليك بسوء ، وكنت في مقام أن تردهم عن فسقهم .