نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (65)

ولما كان التقديم يدل على الاختصاص ، وكانوا لم يدعوه للتخصيص ، بل للكف المقتضي للشرك ، بين أنه تخصيص من حيث أن الإله غني عن كل شيء فهو لا يقبل عملاً فيه شرك ، ومتى حصل أدنى شرك كان في ذلك العمل كله للذي أشرك ، فكان التقدير بياناً لسبب أمره بأن يقول لهم ما تقدم منكراً عليهم : قل كذا ، فلقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك وجوب التوحيد ، فعطف عليه قوله مؤكداً لأجل ما استقر في النفوس من أن من عمل لأحد شيئاً قبل سواء كان على وجه الشركة أولا : { ولقد } ولما كان الموحي معلوماً له صلى الله عليه وسلم ، بني للمفعول قوله : { أوحي إليك } ولما كان التعميم أدعى إلى التقبل قال : { وإلى الذين } ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان لبعض الناس قال : { من قبلك } ولما كان الحكم على قوم ربما كان حكماً على المجموع مع قيد الجمع خص بياناً لأنه مع كونه حكماً على المجموع حكم على كل فرد ، ولأن خطاب الرئيس خطاب لأتباعه لأنه مقتداهم .

ولما كان الموحى إليهم أنه من أشرك حبط عمله سواء كان هو أو غيره ، صح قوله بالإفراد موضع نحو أن الإشراك محبط للعمل وقائم مقام الفاعل ، وعدل عنه إلى ما ذكر لأنه أعظم في النهي وأقعد في الزجر لمن يتأهل له من الأمة ، وأكد لأن المشركين ينكرون معناه غاية الإنكار : { لئن } أي أوحى إلى كل منكم هذا اللفظ وهو وعزتي لئن { أشركت } أي شيئاً من الأشياء في شيء من عملك بالله وهو من فرض المحال ، ذكره هكذا ليكون أروع للأتباع ، والفعل بعد إن الشرطية للاستقبال ، فعدل هنا عن التعبير بالمضارع للمطابقة بين اللفظ والمعنى لأن الآية سيقت للتعريض بالكفار فكان التعبير بالماضي أنسب ليدل بلفظه على أن من وقع منه شرك فقد خسر ، وبمعناه على أن الذي يقع منه ذلك فهو كذلك .

ولما تقرر الترهيب أجاب الشرط والقسم بقوله : { ليحبطن } أي ليفسدن فيبطلن عملك فلا يبقى له أثراً ما من جهة القادر فلأنه أشرك به فيه وهو غني لا يقبل إلا الخالص ، لأنه لا حاجة به إلى شيء ، وأما من جهة غيره فلأنه لا يقدر على شيء . ولما كان السياق للتهديد ، وكانت العبادة شاملة لمت تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه ، لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وقال : { ولتكونن } أي لأجل حبوطه { من الخاسرين * } فإنه من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته ، والخطاب للرؤساء على هذا النحو - وإن كان المراد به في الحقيقة أتباعهم - أزجر للأتباع ، وأهز للقلوب منهم والأسماع .