نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَأۡمُرُوٓنِّيٓ أَعۡبُدُ أَيُّهَا ٱلۡجَٰهِلُونَ} (64)

ولما قامت هذه الدلائل كما ترى قيام الأعلام ، فانجابت دياجير الظلام ، وكان الجهلة قد دعوه صلى الله عليه وسلم كما قال المفسرون في أول سورة ص - إلى أن يكف عن آلهتهم ، وكان الإقرار عليها عبادة لها ، تسبب عن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بما يصدعهم به بقوله : { قل } ولما كان مقام الغيرة يقتضي محو الأغيار ، وكان الغير إذا انمحى تبعه جميع أعراضه ، قدم الغير المفعول لأعبد المفعول - على تقدير " أن " - لتأمر فقال : { أفغير الله } أي الملك الأعظم الذي لا يقر على فساد أصلاً .

ولما كان تقديم الإنكار على فعلهم لهم أرجع ، وتأخير ما سبق من الكلام لإنكاره أروع ، وكان مد الصوت أوكد في معنى الكلام وأفزع وأهول وأفظع ، قال صارفاً الكلام إلى خطابهم ، لأنه أقعد في إرهابهم وأشد في اكتئابهم { تأمروني } بالإدغام المقتضي للمد في قراءة أكثر القراء . ولعل الإدغام إشارة إلى أنهم حالوه صلى الله عليه وسلم في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع . ولما قرر الإنكار لإثبات الأغيار ، أتم تقرير ذكر العامل في { غير } قال حاذفاً " أن " المصدرية لتصير صلتها في حيز الإنكار : { أعبد } وهو مرفوع لأن " أن " لما حذفت بطل عملها ، ولم يراع أيضاً حكمها ليقال : إنه يمتنع نصب " غير " بها لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول .

ولما كانت عبادة غير الله أجهل الجهل ، وكان الجهل محط كل سفول ، قال : { أيها الجاهلون * } أي العريقون في الجهل ، وهو التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم - قاله الحرالي في سورة البقرة .