التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ} (100)

الرجس : هنا بمعنى الخزي والخذلان أو العذاب .

{ لَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ 99 ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إلاّ بِإِذْنِ اللّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ ( 1 ) عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ 100 قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ 101 فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إلاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 102 ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا ( 2 ) عَلَيْنَا نُنجِ ( 3 ) الْمُؤْمِنِينَ 103 } [ 99 103 ] .

في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى لو شاء لآمن من في الأرض جميعا ، وسؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان هو مع ذلك يريد أن يرغم الناس جميعا على الإيمان ، وتقرير رباني آخر بأنه ليس لأحد أن يؤمن إلاّ بإذن الله وتوفيقه ، وأن الذين لا يعقلون ولا يتدبرون في دعوة الله وآياته يتعرضون لخزي الله وخذلانه وغضبه وعذابه ، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بلفت نظر الناس إلى ما في السماوات والأرض من آيات الله ، وتقرير بأن الذين لا يؤمنون لا يمكن أن ينتفعوا بآيات الله ونذره ولن يجدي ذلك فيهم ، وتساؤل عما إذا كان كل ما ينتظره الجاحدون هو عذاب الله الذي حلّ في أمثالهم من قبل ، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم باستمهالهم وإعلانهم بأنه منتظر معهم أمر الله ، وإشارة إلى أن الله تعالى سينجي رسله والذين آمنوا معهم حينما يحين وقوع العذاب على الكفار ويتحقق وعيده لهم ، وأن ذلك حق لهم عليه .

تعليق على الآية

{ ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا }

والآيات الأربع التالية لها

ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات ، والمتبادر أنها هي الأخرى جاءت معقبة على الفصول السابقة التي حكت أقوال الكفار ومواقفهم وحجاجهم ثم على الفصول القصصية التذكيرية والتمثيلية التي أعقبتها بقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، وإدخال الطمأنينة على قلبه وتخفيف حزنه من عدم إيمان أكثر الناس الذي كان شديد الحرص عليه من جهة ، والتنديد بالكفار وعقولهم وغفلتهم عما في السماوات والأرض من آيات الله الباهرة الدالة على وحدانيته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع ووصف شدة عنادهم وتصميمهم على عدم الإيمان من جهة ، وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنجاة من جهة .

وعلى ضوء هذا الشرح المستلهم بقوة من فحوى الآيات وروحها لا يبقى محل للتوهم بما قد يفيده ظاهر نص الآية الأولى والآية الثالثة من كون عدم إيمان الذين لم يؤمنوا هو بسبب عدم مشيئة الله . فالله لم يشأ أن يقرهم على الإيمان وهو قادر بل تركهم لتمييزهم واختيارهم ليستحقوا الثواب والعقاب عدلا .

ومثل هذه التقريرات والتنبيهات والتطمينات والإنذارات تكرر كثيرا لنفس المقاصد مما مرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها .

والآيات الأولى والثانية تضمنتا بالإضافة إلى ما ذكرناه طبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الناس وإرشادهم وتبشيرهم وإنذارهم ثم تركهم إلى عقولهم وضمائرهم من دون إلحاح ولا تشديد . وتقرير كونه ليس عليه من ذلك مسؤولية ولا تثريب . فالناس فريقان إزاء الدعوة فذوو العقول السليمة والنيات الحسنة هم الذين يدركون ما فيها من حق وخير فيستجيبون إليها . وذوو العقول السقيمة والنيات السيئة يقفون منها موقف المعاند المكابر . وهذا التفاوت والتباين مظهر من مظاهر حكمة الله وخلقه . والله قادر على جعل الناس جميعهم مؤمنين ولكن حكمته شاءت تركهم إلى عقولهم وضمائرهم . وقد تكرر تقرير هذا بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها أيضا .

ولقد آمن بعد هذه الآيات كثيرون من الذين وصفوا بما وصفوا فيها حيث يصح أن يقال : إن الآيات من ناحية ما قد احتوت تسجيلا لواقع الأمر عند نزولها بالإضافة إلى ما احتوته من تقريرات وانطوى فيها من مقاصد وتنبيهات .