مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ} (100)

المسألة الثانية : احتج أصحابنا على صحة قولهم : " أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع " بقوله : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان ، ثم قالوا : والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه : الأول : أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه ، فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل ، بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائدا إلى المشكور أو إلى الشاكر . والأول باطل لأن في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران ، فلا جرم كان الشكر حسنا والكفران قبيحا ، أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران ، فلا ينتفع بهذا الشكر أصلا . والثاني باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به البتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب ، لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه ، ولما كان الحق سبحانه منزها عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه ، فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر ، لا يفيد نفعا بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجبا له ، فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } قال القاضي : المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه .

وجوابنا : أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز ، لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا .

المسألة الثالثة : قرأ أبو بكر عن عاصم { ونجعل } بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى .

المسألة الرابعة : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى : { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح ، سواء كان كفرا أو معصية ، وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ، ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه . والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر ، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى .

أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرجس ، يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فقوله : { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } أي يلحق العذاب بهم كما قال : { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } والثاني : أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال : { إنما المشركون نجس } والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم .

والجواب : أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلا للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه ، وإنما يريد ضده ، وإنما قصد إلى تحصيل ضده ، فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب . وأما حمل الرجس على العذاب ، فهو باطل ، لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره ، فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقا صدقا صوابا ، وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد ، لأن حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال إن صفة الله رجس ، فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة .