التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ} (26)

{ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ( 26 ) } [ 26 ] .

عبارة الآية واضحة ، والمتبادر أن تعبير { وفرحوا } قد عنى الذين وصفوا في الآية السابقة مباشرة بنقض ميثاق الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض ولعنوا بناء على ذلك وأنذروا بسوء العقبى . وقد تضمنت الآية حكاية فرح هذه الطبقة وزهوها بما تيسر لهم من وسائل القوة والثروة في الحياة الدنيا والتنديد بهم لاغترارهم بذلك إلى الدرجة التي أعمتهم عن الهوى وجعلتهم يرتكسون فيما ارتكسوا فيه من مواقف المناوأة لرسول الله ورسالته والبغي والفساد ، ثم نبهتهم إلى الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها وهي أن بسط الرزق وتقتيره هما بيد الله وأن الحياة الدنيا مهما بسمت للناس فإنها ليست إلا متاعا تافها جدا في قيمته ومدته بالنسبة للحياة الأخرى .

وبهذا الشرح تكون الآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب واستطراد وتعليل وتنديد .

وننبه على أن مثل هذا التنبيه والتنديد الذي تضمنته الآية قد تكرر في آيات عديدة وردت في مثل المقام الذي وردت فيه هذه الآية ؛ حيث يدل هذا على تكرر المواقف المماثلة واقتضاء حكمة التنزيل ومعالجتها بمثل هذه المعالجة القوية .

ومع ما للآية من خصوصية زمنية وتنديدية فإن فيها تلقينا مستمر المدى في التنبيه على عدم الاغترار بما يتيسر للمرء من قوة وثروة والاستغراق في ذلك استغراقا يذهله عن واجباته نحو الله والناس ويعميه عن الحق وفاضل الأخلاق والأعمال ويجعله يرتكس في البغي والفساد ، وينسيه الحياة الأخروية التي ليست الحياة الدنيا بالنسبة إليها إلا متاعا تافها بقيمته ومدته .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما : ( ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بماذا ترجع ) {[1196]} وفي ثانيهما : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بجدي أسكّ ميت – والأسكّ الصغير الأذنين – فقال : والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه ){[1197]} . ويتساوق الحديثان مع ما احتوته الآية في تلقين حكيم .

ومع ذلك فإن من الحق أن ننبه على أن التلقين الذي احتوته الآية والأحاديث يهدف بالدرجة الأولى إلى التحذير من الاستغراق في الدنيا ومتاعها وشهواتها استغراقا ينسي الإنسان الحياة الأخرى وينسيه ربه ويجعله ينحرف عن واجباته ويبغي ويفسد في الأرض ، وليس فيه ما يمنع من فرح المسلم واغتباطه بما ييسره الله من أسباب الثروة وحسن الاستمتاع في الحياة الدنيا ولا السعي في سبيل ذلك إذا ما اتصف بالصفات التي يجب أن يتصف بها المسلم الصادق والتي نوّهت الآيات السابقة بالمتصفين بها .


[1196]:روى هذا الحديث الترمذي أيضا، انظر التاج ج 5 ص 147.
[1197]:روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا بصيغة أخرى. قال راوي الحديث المستورد: ( كنت مع الركب الذين وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها. قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله ؟ قال: فالدنيا على الله أهون من هذه على أهلها ). انظر المصدر نفسه ص 146.