{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب ( 38 ) يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ( 39 ) وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ( 40 ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب1 لحكمه وهو سريع الحساب ( 41 ) وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ( 42 ) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ( 43 ) } [ 38-43 ] .
في هذه الآيات أولا : تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ورد على الكافرين :
1- فليس النبي بدعا في رسالته ولا في شخصيته البشرية . فقد أرسل الله من قبله رسلا وكانوا مثله بشرا لهم أزواج ولهم ذرية .
2- ولم يكن لرسول أن يأتي بآية من عند نفسه حينما كان يتحداه الناس وإنما كانت الآيات تأتي بإذن الله وفي الوقت المناسب الذي يقدره الله لأن لكل أمر وقتا معينا في علمه .
3- ولله مطلق التصرف في الحكم والأحكام يمحو ما يريد ويثبت ما يريد . وعنده علم كل شيء .
4- وإن من الممكن أن يري الله النبي بعض ما يتوعد به الجاحدين كما أن من الممكن أن يتوفاه الله قبل ذلك .
5- وعلى كل حال فإن قصارى مهمته تبليغ رسالة الله . أم حساب الناس فهو على الله وحده .
وفيها ثانيا : التفات إنذاري إلى الكفار :
1- فوجه إليهم سؤال استنكاري عما إذ لم يروا آثار عقوبة الله من تدمير وانتقاص من أطراف الأرض التي كانت مساكن الكفار من قبلهم حتى يقفوا موقف المعاند المكابر .
2- وعقّب على السؤال بأن الله إذا ما حكم بأمر فهو نافذ حتما لا يستطيع أحد أن ينقضه أو يرده وبأنه سريع الحساب أكثر مما يتوهمون .
3- وذكروا بما كان من أمثالهم السابقين : فقد مكروا مثل ما يمكرون . ولكن المكر المؤثر المتحقق هو مكر الله فهو يعلم ما تكسب كل نفس ويحصيه عليها . ولن يلبث الكفار أن يروا لمن تكون العاقبة والغلبة ومن الذي يجدي مكره وكيده .
وفيها ثالثا : التفات إلى النبي ثانية بسبيل التثبيت والتطمين : فالكفار ينكرون رسالته فما عليه إلا أن يقول لهم إنه يجعل الله شهيدا بينه وبينهم فهو خير الشاهدين ثم يجعل الذي عنده علم الكتاب أيضا شاهدا على صحة رسالته .
ولقد روى البغوي في سياق الشطر الأول من الآية الأولى أن اليهود أو المشركين قالوا إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء ، فأنزله الله للرد عليهم . وروى في سياق الشطر الثاني أنه جواب لعبد الله بن أبي أمية الذي تحدى النبي بالإتيان بآية .
والآيات منسجمة مع بعضها ، وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو وحدة متماسكة . والرواية الأولى لا يمكن أن تصح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج في العهد المكي إلا بأم المؤمنين خديجة وكانت أكبر منه سنا حينما تزوجها وبلغت عنده سن الشيخوخة ولم يتطلع إلى غيرها . والطابع المكي قوي البروز على الآيات ، وقد ورد أمثالها في سور لا خلاف في مكيتها . ولم يرو المفسرون الآخرون رواية ما في صدد نزولها وإنما قال بعضهم إن في الآية الأولى ردا على المشركين الذين كانوا يستغربون أن يكون النبي بشرا يتزوج النساء وينجب ذرية ويظنون أنه ينبغي أن يكون من جنس الملائكة ثم الذين كانوا يتحدون النبي بالآيات .
ومع وجاهة ذلك بالنسبة للآية الأولى فإن الذي يتبادر أن الآيات متصلة أيضا بالسياق والمشهد الجدلي . وقد احتوت تثبيتا وردا وتدعيما وإنذارا وجاءت خاتمة قوية للموقف الجدلي وللسورة في آن واحد .
ولقد تضمنت آيات مكية عديدة مرت أمثلة منها حكاية استغراب المشركين بشرية النبي{[1209]} . فمن المحتمل أن يكونوا كرروا ذلك في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ردا عليهم في سياق ما احتوته الآيات من ردود وتقريرات . ولقد كان تحدي المشركين النبي بالإتيان بآية مما تكررت حكايته في السياق المتوالي من السورة فاحتوت الآية الأولى كذلك ردا جديدا على تحديهم بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل ، ولقد كانوا يعرفون أن الرسل السابقين كانوا يأتون بالمعجزات فاستهدف هذا الرد تقرير كون ذلك لم يكن إلا بإذن الله وفي المناسبة والحالة اللتين تقتضيهما حكمته . ولقد كانوا يعرفون حتما أن من الرسل من كان له أزواج وذرية . فإن هذا مستفيض الذكر في كتب أهل الكتب وأوساطهم ، فجاء الرد بذلك قويا مفحما .
ولقد أورد المفسرون في سياق جملة { أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } أقوالا عديدة معزوة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين أوردناها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآية [ 44 ] المماثلة لها في سورة الأنبياء . وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه فلا حاجة للإعادة .
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أحد علماء التابعين أن المقصود من جملة { ومن عنده علم الكتاب } عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود الذين أسلموا في المدينة ثم رويا إنكار الشعبي وسعيد بن جبير من علماء التابعين كذلك لذلك وقالا : كيف يكون عبد الله بن سلام والسورة مكية ، وهذا حق . ولقد حكت آيات عديدة مكية تصديق أهل الكتاب لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وحي القرآن وإيمانهم بذلك على ما مر بيانه في هذه السورة ثم في سور عديدة سابقة {[1210]} . والمتبادر استشهاد الآية إنما كان بالذين كانوا في مكة من هؤلاء .
ومع وضوح القصد من هذه الجملة وهو استشهاد أهل العلم والكتاب على صحة نبوة النبي ووحي القرآن ، فإن الطبرسي المفسر الشيعي أورد في سياقها فيما أورد رواية عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى ورواية عن أبي عبد الله أنه قال : إيّانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي وأنه وضع يده على صدره ثم قال : عندنا والله علم الكتاب .
والهوى الحزبي والتكلف والخروج عن الصدد بارز على الرواية كما هو واضح
تعليق على جملة { لكل أجل كتاب }
وعلى آية { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب }
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم للجملة الأولى {[1211]} . منها أنها بسبيل الرد على استعجال الكفار لعذاب الله المنذر به . ومنها أنها بسبيل الرد على تحديهم النبي بالآيات . ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله قد جعل لكل كتاب أنزله على أنبيائه السابقين مدة محدودة فيثبت منها ما يشاء ويمحو ما يشاء في الكتب التي ينزلها بعد حتى نسخت بالقرآن . ورأى بعضهم في هذا دليلا على صحة القول بالنسخ في القرآن . وقد يكون للقول الأول وجاهة مستمدة من الآيتين [ 34و40 ] من هذه السورة . وقد يكون للقول الثالث وجاهة من حيث الاستنباط ؛ لأن بعض الأحكام المنزلة على بعض الأنبياء كانت تنسخ بأحكام أخرى تنزل على أنبياء آخرين . ثم نزل القرآن الذي صار هو المرجع للمبادئ والأحكام الإلهية وصار هو كتاب الدين الذي أذن الله أن يظهره على الدين كله . غير أن الذي يتبادر لنا أن القول الثاني هو الأكثر اتساقا مع السياق على ما شرحناه آنفا وفي سورة غافر آية تدعم هذا الشرح بقوة . وهي{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ( 78 ) } .
وتعددت كذلك التأويلات التي يرويها المفسرون أو يوردونها باجتهادهم لمدى جملة { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } من ذلك إنها بسبيل تقرير كون كل الأحكام والأقدار والأقوال والأفعال الربانية قابلة للمحو والإثبات . واستثنى بعضهم الموت والحياة والسعادة والشقاء ، ويعنون بالسعادة والشقاء تقدير الله الأزلي لسعادة المهتدين الناجين وشقاء الأشقياء الضالين الهالكين في الآخرة بمعنى أن من قدر عليه الشقاء ظل شقيا لا يتبدل أمره وكذلك من قدر له السعادة .
وأنكر بعضهم استثناء السعادة والشقاء وأوردوا للتدليل على ذلك خبرا يفيد أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يدعوان الله فيقولان :
اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحه عني وأثبتني سعيدا إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب . وأوردوا مثل هذا الدعاء أو قريبا منه لبعض التابعين أيضا . ومن ذلك أنها بسبيل كون الله يمحو ما يشاء مما أنزل من الأحكام ويثبت ما يشاء مما هو مقرر عنده في أم الكتاب . أو إن الذي يثبته هو المقرر عنده في أم الكتاب .
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويمحوها من كتب أعمالهم ويبقى منها ما يشاء . ومنها أنها بسبيل بيان كون الله يأمر بطرح كل ما ليس فيه ثواب وعقاب من أعمال الناس من كتبهم . ومنها أنها بسبيل تقرير مطلق تصرف الله تعالى بالمحو والإثبات في كل ما يريد بكونه وخلقه وأحكامه وعقابه وثوابه وإرزاقه الناس وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقائهم الخ وأن علم ذلك كله عنده في أم الكتاب . واستدل بعضهم بهذه الآية على جواز البداء على الله تعالى أي رجوعه عما كان قدره وقضاه . ورأى بعضهم في هذا التعبير مسا بذات الله فقال إن لله لوحين واحدا فيه كل ما هو كائن حقا ، وهذا لا يقع فيه تبديل ولا رجوع ، وهو المعبر عنه بعبارة أم الكتاب ، وآخر يمحو منه ما شاء أن يمحوه ويثبت ما شاء أن يثبت .
وقال بعضهم في الرد على جواز البداء على الله : إن علم الله قديم أزلي وهو من لوازم ذاته وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محال . وتعددت الأقوال المروية والواردة في مدى { أم الكتاب } كذلك . . .
منها أنها الحلال والحرام ، ومنها أنها علم الله الشامل لكل شيء . ومنها أنه الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل . ومنها أنه المحتوي لكل شيء سواء ما شاءت حكمة الله محوه أم شاءت إثباته . ومنها أنه علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون وأنه قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا . وهذا القول الأخير مروي عن ابن عباس عن كعب بن أبيّ احد علماء أصحاب رسول الله . وقد قال الطبري الذي استوعب الأقوال المروية تعقيبا عليها : إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال ( عنده أصل الكتاب وجملته ويدخل في ذلك ما شاء أن يمحوه وما شاء أن يثبته ) .
وبعض هذه الأقوال متصل بموضوعي اللوح والقدر . وقد علقنا عليهما في سورتي البروج والقمر بما يغني عن التكرار . ونكتفي بالقول هنا : إن فيما رواه المفسرون وقالوه حول الجملة الثانية ما هو أمور غيبية لا يصح الأخذ بشيء منها إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم . وليس هناك شيء صحيح عنه في صدد هذه الجملة . وكل الأقوال اجتهادية وتخمينية . ويلمح شيء من التعارض بينها في الوقت نفسه . هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سلسلة استهدفت الرد على الكفار وإفحامهم وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم تجاه مواقفهم منه وإن ما احتوته هو بسبيل ذلك حيث أريد بها تقرير كون الله عز وجل مطلق التصرف في جميع الأمور ما علم منها وما لم يعلم ، وما غاب وما حضر ، وما حدث وما لم يحدث . وما مضى وما يأتي فإذا شاءت حكمته أن يقع أمر في الموعد وقع ، وإذا شاءت حكمة أن يمحوه أو يثبته تمّ ذلك حسب مشيئته . وأن الأولى أن تظل الجملة في هذا النطاق دون تخمين وتزيد وخروج عن الصدد والله تعالى أعلم .