التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قُرۡءَانًا عَرَبِيًّا غَيۡرَ ذِي عِوَجٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (28)

تعليق على جملة : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } : واستطراد إلى ما روي من معاني حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ومداه وإلى كتابة القرآن

والمتبادر أن الآية الثانية ليست في صدد تقرير كون لغة القرآن هي اللغة العربية ؛ لأن هذا تحصيل الحاصل ، وإنما هي في صدد تقرير كون لغته العربية سليمة مأنوسة لا إغراب فيها ولا تعقيد ليستطيع السامعون على مختلف طبقاتهم أن يفهموه ويفهموا ما فيه من مواعظ وأمثال . وفي هذا رد قرآني على من قال : إن لغة القرآن كانت فوق مستوى مدارك العرب وأفهامهم وتوكيد بأن لغته هي اللغة التي كان يفهمها السامعون أو معظمهم على اختلاف فئاتهم ومنازلهم .

ولقد أشرنا إشارة عرضية إلى حدوث نزول القرآن على سبعة أحرف في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في سورة الأعراف . وقد رأينا أن نستوفي الكلام عن ذلك ، ونستطرد إلى قراءات القرآن في الوقت نفسه في مناسبات هذه الجملة ، فنقول : إن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة عن نزول القرآن على سبعة أحرف . منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي بن كعب جاء فيه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطبق ذلك . ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا ) . ولفظ الترمذي : ( يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط ، قال : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ) . وحديث رواه مسلم عن أبي قال : ( كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ، فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه ، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأا ، فحسن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شأنهما ، فسقط في نفسي من التكذيب ، ولا إذ كنت في الجاهلية ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا ، فقال لي : يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هون على أمتي ، فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين ، فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكما مسألة تسألنيها ، فقلت : اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم ) . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله قال : ( أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ) . وحديث رواه الأربعة أن عمر بن الخطاب قال : ( سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأنيها ، فكدت أن أعجل إليه ثم أمهلته حتى انصرف ، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرسله ، ثم قال : اقرأ يا هشام ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هكذا أنزلت . ثم قال لي : اقرأ فقرأت فقال : هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ) .

ولقد تعددت تخريجات علماء القرآن للأحرف السبعة حتى بلغت اثنين وعشرين تخريجا منها الغريب الذي لا علاقة له بقراءة النص القرآني . وأوجهها وأرجحها عندنا هو أن المراد به سبعة أوجه للقراءة ، أو سبعة أوجه يقع فيها تغاير في فتح ورفع وكسر وتقديم وتأخير وتخفيف وتشديد وإدغام . وروح الأحاديث تدعم ذلك فيما هو المتبادر ، ويتسق مع روح الآية التي نحن في صددها ، ومن الجدير بالتنبيه أن الاختلاف بين القراءات الصحيحة التي يعدها بعضهم سبعا وبعضهم عشرا يدور على الأغلب على : مخارج الحروف كالترقيق والتفخيم والميل إلى المخارج المجاورة . والأداء كالمد والقصر والوصل والتسكين والإمالة والإشمام . والرسم كالتشديد والتخفيف والإدغام والإظهار والهمز .

والتنقيط والحركات النحوية . وهذا كما هو واضح متصل بأمر التيسير والتسهيل في القراءة وبالتالي متسق مع وجهة النظر التي رجحناها .

وهناك مسألة هامة متفرعة عن هذه المسألة وهي كتابة القرآن ، فإن من العلماء وقراء القرآن من أوجب الاحتفاظ في كتابة القرآن برسم المصحف العثماني ، ومنهم من كره كتابته برسم آخر ، ومنهم من حرمها . ولم نطلع على أقوال وأحاديث موثوقة متصلة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أصحابه في هذا الشأن ؛ حيث يسوغ أن يقال إنها أقوال اجتهادية . ولما كان من المتواتر السائغ عند جميع المسلمين كتابة القرآن بخط غير خط مصحف عثمان الذي هو قريب من الرقعة حيث كتب المسلمون مصاحفهم بالخط الكوفي والخط الفارسي والخط الهمايوني والخط المغربي والخط المعلق والخط الثلث الخ…بدون حرج ولا إنكار فيكون التشديد هو في صدد طريقة الكتابة أي إملائها وليس في صدد الخط ذاته .

ويبدو أن التشديد متصل بروايات القراءات السبع أو العشر وبالقول إن هذه القراءات صحيحة كلها لأنها تقع في نطاق وحدة الرسم من ناحية ، ومتصلة بالسماع المتسلسل الواصل إلى قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ناحية أخرى ، بحيث يراد القول : إن من شأن كتابة القرآن بغير الرسم العثماني ، وبالخطوط الدارجة في الأزمنة التالية أن تحول دون قراءة الكلمات القرآنية بقراءات مختلفة يحتملها الرسم العثماني ومتصلة بقراء الصحابة فيكون في ذلك تحكم في تصويب قراءة وإبطال قراءة دون قراءة أو مؤد إليهما . وإن هذا هو ما تحرز العلماء والقراء في مختلف العصور تورعا وزيادة في التحري في تلاوة القرآن تلاوة قويمة صحيحة متصلة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين سمعوا منه وتلقوا عنه .

ومهما يبدو من وجاهة القول ونتائجه وبخاصة فوائده التي من أهمها احتفاظ المصاحف خلال ثلاثة عشر قرنا برسم واحد قد كتب وفاقا لما يكتب في عهد النبي وبإملائه وحفظ القرآن بذلك من التحريف والتشويه ، ومن الخلافات التي لا بد من أن تنشأ بسبب تطور الخطوط من وقت لآخر وتبدلها في زمن لم يكن فيه مطابع ولا تصوير شمسي . والحيلولة دون تكرر المأساة التي أفزعت الخليفة عثمان بن عفان حينما علم أن المسلمين يقرأون القرآن قراءات مختلفة من مصاحف مختلفة في الإملاء والهجاء ، وكل يدعي أن قراءته هي الصحيحة فحمله ذلك على توحيد هجاء القرآن وكتابته ، فإننا نعتقد أنه ليس من شأن ذلك أن يمنع جواز كتابة المصحف بالخط الدارج على شرط مراعاة قراءة من القراءات المشهورة والنص على ذلك في مقدمة المصحف ؛ لأنه لا يوجد نص صريح ثابت متصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يمنع ذلك فيما اطلعنا عليه ، ولأننا نعتقد أن في ذلك تيسيرا واجبا لتعليم القرآن وتعلمه وحسن ضبطه وإلقائه . والرسم العثماني ليس توقيفيا كما قد يظن البعض ، فليس هناك نص وثيق بل وغير وثيق متصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أصحابه في ذلك ، وإنما هو في حقيقة الأمر الطريقة الدارجة للكتابة في ذلك العصر ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ويكتب كان يملي ما يوحى إليه به على كتابه فيكتبونه وفق ما يعرفونه من طريقة الكتابة . وبين الرسم العثماني والخط الدارج فروق غير يسيرة ، ومن العسير أن يتعلم القارئ الرسم العثماني بالإضافة إلى الرسم الدارج الذي ألفه في كتابته وقراءاته الأخرى . وما دامت طريقة الكتابة قد تطورت فإن تسويغ كتابة المصحف وفق الطريق الدارجة طبيعي أيضا ، وخاصة بعد أن صار الاحتفاظ بالرسم العثماني ليكون المرجع والإمام مطبوعا ومصورا كما قلنا ممكنا إلى ما شاء الله . ويجب أن يلاحظ أن هناك مسلمين وغير مسلمين لا يتيسر لهم تلقي القرآن من قراء مجازين أو قراء تلقوا أو قرأوا أو سمعوا من قراء مجازين مما يصعب معه إتقان تلاوة القرآن برسمه العثماني بدونه . والمصاحف في متناول جميع الناس على اختلاف الملل والأجناس . وفي كتابته بالرسم الدارج منع لمغبة الغلط في قراءة كتاب الله وتشويهه وسوء فهمه وتفسيره ، وتيسير واجب لنشر القرآن الذي هو من أهم واجبات المسلمين أيضا . ولاسيما أن الرسم العثماني محفوظ لن يبيد بما يوجد منه من ملايين النسخ المطبوعة وغير المطبوعة وبالتصوير الشمسي الذي فيه ضمانة لبقائه المرجع الإمام أبد الدهر . وقد رأينا للإمام ابن كثير في كتابه ( فضائل القرآن ) قولا يبيح كتابة المصحف على غير الرسم العثماني ، وفي هذا توكيد وتوثيق لوجهة نظرنا .