التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَقَالُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةٗ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (37)

{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 37 ) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( 38 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 39 ) }

في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له . وأمر بالرد عليهم : بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه . وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا ، وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء . وأنه ليس في الأرض دابة وليس في السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره . وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه ، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه ، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصم الذين لا يسمعون ، والبكم الذين لا ينطقون ، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم .

ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزلها عليه ربه . وعطف الآيات على ما قبلها ، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة .

ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى ، فالكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير . فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى . ولاسيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة . وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحد مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا .

تعليق على آية

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثم إلى ربهم يحشرونٍ }

1- قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر ، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون ، وهذا وجه سديد .

2- وقالوا ورووا في صدد جملة { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا . وأوردوا أحاديث في ذلك ، منها : حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟ قال : لا ، قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما ) . وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة ) وحديث غير معزو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه : ( يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فتكون ترابا ) . وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله : إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر ، وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت . ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم . ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده . وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض ، والله أعلم .

3- أما جملة { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة أمر كل ما هو كائن حين خلقه عليه ، وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء . وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } [ 89 ] لتأييد تأويله . وقد رد قائلو هذا على من قال : إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن ومذهب وتاريخ . فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها ، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات .

وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية ، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة . ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم . وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا . وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [ 59 ] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [ 75 ] ويونس [ 75 ] وهود [ 6 ] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سورة أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا .

وفي كل ما تقدم نفي لكون ( الكتاب ) في الجملة قد عنى ( القرآن ) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها ، وكونها عنت ( القرآن ) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التحمل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء .

وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقدير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه ، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النص القرآني . والله تعالى أعلم .

تعليق على جملة

{ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا . ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم ؛ حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [ آية سورة البقرة 2 ] وإنما يضل الظالمين [ آية سورة إبراهيم 27 ] ويهدي إليه من أناب [ آية سورة الرعد 27 ] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة . وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر { ولا يرضى لعباده الكفر } [ 7 ] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك ؛ حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم .