التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)

بسم الله الرحمان الرحيم .

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 4 ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 5 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 6 ) } .

_عبارة الآيات واضحة ، والآيات الأربع الأولى منها احتوت تقريرا لعظمة ملك الله وقدرته ومطلق تصرفه في الكون وإتقان خلق الإنسان وتصويره على أحسن الصور ، وإحاطة علمه بكل شيء وخضوع كل شيء له واستحقاقه وحده للحمد والتقديس ، وقد انطوى في الآية الثانية على ما يتبادر من روحها تقرير لواقع المخاطبين ؛ حيث كان منهم الكافر وكان المؤمن وتقرير كون الله تعالى بصير بما يفعله كل منهم .

أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا تذكيرا بالكافرين من الأمم السابقة بأسلوب التساؤل الإنكاري التقريري عن ما جاء المخاطبين من أنبائهم ؛ حيث استنكروا أن يرسل الله بشرا رسلا ليهدوهم فكفروا نتيجة لذلك ، فذاقوا نكال الله في الدنيا فضلا عما أعده لهم من عذاب الآخرة الأليم مع تقرير كون الله مستغنيا عنهم ، وهو الغني عن خلقه الحميد لمن يشكروه ويؤمن به .

وواضح أن الآيات هي بسبيل دعوة السامعين إلى الله والاهتداء بالهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جاء هذا بصراحة أكثر في الآيات التالية . وأسلوبها عام هادئ موجه إلى القلب والعقل معا .

وليس هناك روايات تروي سبب نزولها والمتبادر أنها تمهيد أو مقدمة لما جاء بعدها . والله أعلم .

وفي حكاية قول الكفار السابقين حينما كانت تأتيهم رسلهم { أبشر يهدوننا } تنديد بالكافرين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان يصدر منهم مثل هذا القول على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة . منها آية الإسراء هذه { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا 93 وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا 94 } فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم إذا قلتم هذا فقد قاله أمثالكم من قبل ، وكان من أسباب كفرهم واستحقاقهم لنكال الله وعذابه . وإن الله لمستغن عنكم كما استغنى عمن قبلكم وهو الغني الحميد .

وفي جملة { وصوركم فأحسن صوركم } تذكير للإنسان بما ميزه الله على غيره من خلقه بالمميزات المتنوعة ، وبما يوجبه ذلك عليه من الاعتراف بفضله والاستجابة إلى دعوته . وقد انطوى هذا في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها .

تأويل الكلاميين لجملة

{ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } وتعليق عليه

ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة ، وأوردوا مذاهب الكلاميين فيها ، من حيث الجبر والاختيار ؛ حيث يرى أصحاب المذهب الأول فيها دليلا على مذهبهم بتقدير الله عز وجل الكفر والإيمان على الناس . وقد أوردوا حديثا نبويا للتدليل على ذلك روي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( وكل الله بالرحم ملكا ، فيقول أي رب نطفة أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد أن يقضي خلقها قال : يا رب أذكر أم أنثى . أشقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه ) {[2237]} وحيث ينكر أصحاب المذهب الثاني ذلك ويقولون : إن معنى الآية هو أن الله خلق الناس فمنهم من اختار الكفر ، ومنهم من اختار الإيمان وذكروا آية سورة الكهف { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ( 29 ) ونقول تعليقا على ذلك : إن الحديث ليس من الصحاح وإننا شرحنا مسألة القدر والجبر والاختيار في سورة القمر شرحا يغني عن التكرار ، ورجحنا الثاني على ضوء الآيات القرآنية المحكمة . وإن المتبادر لنا أن الجملة لا تتحمل هذا الخلاف الكلامي ، وإن روح الآيات وهي تندد بالكافرين وتنسب إليهم أعمالهم وتذكرهم بأمثالهم الذين استحقوا نكال الله تؤيد بقوة القول الثاني . وإن الجملة هي بسبيل تقرير واقع المخاطبين والسامعين حين نزولها حيث كان منهم من كفر بالرسالة النبوية ومنهم مؤمن . وقد رأينا الطبري يؤول الجملة في معنى ( يقول الله تعالى أيها الناس منكم كافر بخالقه وأنه خلقه . ومنكم مؤمن بخالقه وأنه خلقه ) ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كنا نرى ما ذكرناه هو الأكثر تساوقا مع الجملة وروح الآيات معا . والله تعالى أعلم .


[2237]:الحديث من تفسير البغوي