الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

وقوله { بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } " مِنْ ربي " نعتٌ ل " بَيِّنة " ، أي : بَيِّنَةٌ من بَيِّنات ربي .

قوله تعالى : { رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } : يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً ل " رحمة " وأن يكونَ متعلقاً ب " آتاني " .

قوله : { فَعُمِّيَتْ } قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم ، والباقون بالفتح والتخفيف . فأما القراءة الأولى فأصلها : عَمَاها اللَّهُ عليكم ، أي : أَبْهمهما عقوبةً لكم ، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه ، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه ، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل " فعماها اللَّهُ عليكم " ، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي " فعماها " من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي ، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب " وعُمِّيَتْ " بالواو دون الفاء .

وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازاً . قال الزمخشري : " فإن قلت : ما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء ؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه ، فمعنى " فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ " : فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ " .

وقيل : هذا من باب القلب ، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه ، وأنشدوا على ذلك :

2654 ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال أبو علي : " وهذا مما يُقْلَبُ ، إذ ليس في إشكال ، وفي القرآن

{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] ، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف . وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب . وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب " عن " دون " على " ، ألا ترى أنك تقول : " عَمِيْتُ عن كذا " لا " على كذا " .

واختُلِفَ في الضمير في " عُمِّيَتْ " هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه : " وآتاني رحمة " جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّه { عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي . . . فَعُمِّيَتْ } . وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة الثاني ، والأصل : على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ . قال الزمخشري : " وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة ، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة . ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة ، وبالرحمة النبوَّةَ . فإن قلت : فقوله : " فعُمِّيَتْ " ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيَتَا ؟ قلت : الوجهُ أن يُقَدَّر : فعُمِّيَتْ بعد البينة ، وأن يكون حَذَفَه/ للاقتصار على ذِكْرِه مرةً " .

انتهى .

وقد تقدَّم الكلامُ على " أرأيتم " هذه في الأنعام ، وتلخيصُه هنا أنَّ " أَرَأَيْتُم " يطلب البينة منصوبةً ، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب " على " ، فأعمل الثاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها ، فحذف المفعولُ الأول ، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني ، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه .

وقوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أتى هنا بالضميرين متصلين ، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال ، واستشهد عثمان " أراهُمُني الباطل شيطاناً " . وقال الزمخشري : " يجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : " أَنُلْزِمكم إياها " ونحوه : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 137 ] ويجوز " فسيكفيك إياهم " . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه .

وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونُها ، وعليه " أراهُمني الباطل " . وقال أبو البقاء : " وقرىء بإسكان الميم فِراراً من توالي الحركات " فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع ؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال : " ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم ، وهو الأصل في ميم الجمع ، وقرىء بإسكان الميم " . انتهى . وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجَوِّزُ " الدرهمَ أعطيتكمْه " وغيرُه يأباه . ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل ، ويدل عليه ما قال الزجاج " أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر ، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء ، ورَوَى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها ، وهذا هو الحقُّ ، وإنما يَجُوز الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرىء القيس :

2655 فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكذا قال الزمخشري أيضاً : " وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهُه أنَّ الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً ، فظنَّها الراوي سكوناً ، والإِسكانُ الصريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين ؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر " .

قلت : وقد حكى الكسائي والفراء " أَنُلْزِمْكموها " بسكون هذه الميم ، وقد تقدم القول في ذلك مشبعاً في سورة البقرة ، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه لحناً ؟ .

و " ألزم " يتعدَّى لاثنين ، أوَّلهُما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة . و { وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين . وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل . وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك .