الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ} (53)

قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } : يجوز في " ما " وجهان ، أحدهما : أن تكونَ موصولةً ، والجارُّ صلتُها ، وهي مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه { فَمِنَ اللَّهِ } والفاءُ زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ ، تقديره : والذي استقرَّ بكم . و { مِّن نِّعْمَةٍ } بيان للموصول . وقدَّر بعضُهم متعلِّق " بكم " خاصَّاً فقال : " وما حَلَّ بكم أو نزل بكم " وليس بجيدٍ ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ .

والثاني : أنها شرطية ، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء . قال الفراء : " التقدير : وما يكنْ بكم " . وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصةً ، في موضعين ، أحدُهما : أن يكون في باب الاشتغال نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ }

[ التوبة : 6 ] لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ . والثاني : أن تكونَ " إنْ " متلوَّةً ب " لا " النافية ، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله :

فطلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ *** وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ

أي : وإن لا تُطَلِّقْها ، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله " فَطَلِّقْها " عليه فإن لم توجَدْ " لا " النافيةُ ، أو كانت الأداةُ غيرَ " إنْ " لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً ، مثالُ الأول :

قالَتْ بناتُ العمِّ يا سَلْمَى وإنْ *** كان فقيرا مُعْدِماً قالت : وإنْ

أي : وإن كان غنياً رَضِيتُه . ومثالُ الثاني :

صَعْدَة نابتةٌ في حائرٍ *** اَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ

وقول الآخر :

فمتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** ه وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي

قوله : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاءُ جوابُ " إذا " . والجُؤار رَفْعُ الصوتِ ، قال رؤبة يصفُ راهباً . /

يُراوِحُ مِنْ صلواتِ المَلِي *** كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤاراً

ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة ، وأنشد الزمخشري :

جَآَّرُ ساعاتِ النيامِ لربِّه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل : الجُؤَار كالخُوار ، جَأَر الثورُ وخارَ واحد ، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها . وقال الراغب : " جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع ، تشبيهاً بجُؤَارِ الوَحْشِيَّات " .

وقرأ الزهري : " تَجَرون " بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها ، كما قرأ نافع " رِدَّاً " في " رِدْءاً " .