الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

قوله تعالى : { أَوَ لَمَْ } : قرأ الأخَوان " تَرَوْا " بالخطاب جَرْياً على قولِه { فَإِنَّ رَبَّكُمْ } ، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ } . وأمَّا قولُه : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ } [ النحل : 79 ] فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب ، ووافقه ابنُ عامر فيه ، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما ، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني ، وابنَ عامر بالعكس ، والباقون بالغيبة فيهما .

فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم ، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قوله

{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] . وأمَّا الغيبةُ فَجَرْياً على قوله { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [ النحل : 73 ] . وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الموضعين فجمعاً بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ .

قوله : { مِن شَيْءٍ } هذا بيانٌ لِما في قوله : { مَا خَلَقَ اللَّهُ } فإنها موصولةٌ بمعنى الذي . فإن قلتَ : كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- ب " شيء " وهو مبهمٌ ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله ؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه ، وهي { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .

قال الزمخشري : " وما موصولة ب { خَلَقَ اللَّهُ } وهو مبهمٌ ، بيانُه { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } . وقال ابن عطية : " وقولُه { مِن شَيْءٍ } لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } صفة لشيء ، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال : " والمعنى : من شيءٍ له ظِلٌ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ . وقوله : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } إخبارٌ عن قوله { مِن شَيْءٍ } ليس بوصفٍ له ، وهذا الإِخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه : هو له ظلٌّ " وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له ، والصفةُ أبينُ . و { مِن شَيْءٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، أي : أَعْني مِنْ شيء .

والتفيُّؤُ : تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ ، أي : رَجَع ، و " فاء " قاصرٌ ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ/ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [ الحشر : 7 ] أو بالتضعيف نحو : فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ . وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ . ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله :

طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها *** وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا

واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل : هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده ، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا . وقيل : " ما كان [ قبل ] الزوال فهو ظلٌّ فقط ، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ " ، فالظلُّ أعمُّ ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج . وقيل : بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده . قال الأزهري : " تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ ، فالتفيُّؤُ لا يكون إلا بالعَشِيّ ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ ، والظلُّ ما يكون بالغداة ، وهو ما لم تَنَلْهُ [ الشمس ] قال الشاعر :

فلا الظِلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتطيعُه *** ولا الفيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوْقُ

وقال امرؤُ القيس أيضاً :

تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ *** يَفِيْءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِ

وقد خطَّأ ابن قتيبة الناسَ في إطلاقهم الفَيْءَ على ما قبلَ الزَّوال ، وقال : إنما يُطْلَقُ على ما بعده ، واستدلَّ بالاشتقاق ، فإن الفيْءَ هو الرجوعُ وهو متحققٌ ما بعد الزوال ، فإنَّ الظلَّ يَرْجِعُ إلى جهةِ المشرق بعد الزوال بعدما نَسَخَتْه الشمسُ قبل الزَّوال .

وقرأ أبو عمرو " تَتَفَيَّأ " بالتاءِ مِنْ فوقُ مراعاةٍ لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيثٌ مجازي .

وقرأ العامَّة " ظلالُه " جمع ظِلّ ، وعيسى بن عمر " ظُلَلُهُ " جمع " ظُلَّة " كغُرْفَة وغُرَف . قال صاحب " اللوامح " في قراءة عيسى " ظُلَلُهُ " : " والظُلَّة : الغَيْمُ ، وهو جسمٌ ، وبالكسرِ الفَيْءُ وهو عَرَضٌ ، فرأى عيسى أنَّ التفيُّؤُ الذي هو الرجوعُ بالأجسام أَوْلَى منه بالأَعْرَاضِ ، وأمَّا في العامَّة فعلى الاستعارة " .

قوله : " عن اليمين " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها تتعلَّقُ ب " يتفيَّأ " ، ومعناها المجاوزةُ ، أي : تتجاوز الظلالُ عن اليمينِ إلى الشِّمائل . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " ظلالُه " . الثالث : أنها اسمٌ بمعنى جانب ، فعلى هذا تَنْتَصِبُ على الظرف .

وقوله : { عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ } فيه سؤالان ، أحدهما : ما المراد باليمين والشَّمائل ؟ والثاني : كيف أفرد الأولَ وجوع الثاني ؟ وأُجيب عن الأول بأجوبةٍ ، أحدُها : أنَّ اليمينَ يمينُ الفَلَك وهو المشرقُ ، والشَّمائلُ شمالُه وهي المغرب ، وخُصَّ هذان الجانبان لأنَّ أقوى الإِنسانِ جانباه وهما يمينُه وشماله ، وجعل المشرقَ يميناً ؛ لأن منه تظهر حركةُ الفَلَكِ اليومية .

الثاني : البلدةُ التي عَرْضُها أقلُّ مِنْ مَيْل الشمس تكون الشمس صيفاً عن يمينِ البلدِ فيقع الظلُّ عن يمينهم .

الثالث : أنَّ المنصوبَ للعِبْرة : كلُّ جِرْمٍ له ظِلٌّ كالجبل والشجر ، والذي يترتَّبُ فيه الأيْمان والشَّمائل إنما هو البشرُ فقط ، لكنَّ ذِكْرَ الأَيْمانِ والشَّمائلِ هنا على سبيل الاستعارة .

الرابع : قال الزمخشري : " أو لم يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ من الأَجْرامِ التي لها ظلالٌ متفيِّئَةٌ عن أَيْمانِها وشَمائِلها عن جانبي كل واحدٍ منها وشِقَّيْه استعارةً من يمين الإِنسان وشمائله لجانبي الشيءِ ، أي : تَرْجِعُ من جانبٍ إلى جانب " . وهذا قريبٌ ممَّا قبله .

وأُجِيْب عن الثاني بأجوبةٍ ، أحدُها : أن الابتداءَ يقع من اليمين وهو شيءٌ واحدٌ ، فلذلك وَحَّد اليمينَ ثم يَنْتَقِصُ شيئاً فشيئاً ، حالاً بعد حال/ فهو بمعنى الجمعِ ، فَصَدَق على كلِّ حالٍ لفظةُ " الشمال " ، فَتَعَدَّدَ بتعدُّدِ الحالات . وإلى قريبٍ منه نحا أبو البقاء .

والثاني : قال الزمخشري : " واليمين بمعنى الأَيْمان " يعني أنه مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع ، وحينئذٍ فهما في المعنى جمعان كقوله { وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] ، أي : الأدبار .

الثالث : قال الفراء : " كأنه إذا وَحَّد ذَهَبَ إلى واحدٍ من ذواتِ الظلال ، وإذا جَمَع ذَهَب إلى كلِّها ، لأنَّ قولَه { مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } لفظُه واحدٌ ومعناه الجمعُ ، فعبَّر عن أحدِهما بلفظِ الواحدِ كقوله تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] وقوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .

الرابع : أنَّا إذا فَسَّرْنا اليمينَ بالمشرقِ كانت النقطةُ التي هي مَشْرِقُ الشمسِ واحدةً بعينها ، فكانت اليمينُ واحدةً ، وأمَّا الشمائلُ فهي عباراتٌ عن الانحرافاتِ الواقعةِ في تلك الظلال بعد وقوعِها على الأرضِ وهي كثيرةٌ ، فلذلك عَبَّر عنها بصيغةِ الجمع .

الخامس : قال الكرماني : " يُحتمل أَنْ يُراد بالشمائل الشِمالُ والخَلْفُ والقُدَّامُ ؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيءُ من الجهاتِ كلِّها ، فبُدِئ باليمينِ لأنَّ ابتداءَ التفيُّؤِ منها أو تَيَمُّناً بذِكرها ، ثم جَمَع الباقي على لفظ الشِّمال لما بين اليمين واليسار مِنَ التَّضادِّ ، ونَزَّلَ القُدَّام والخلفَ منزلةَ الشَّمائل لِما بينهما وبين اليمينِ من الخلافِ " .

السادس : قال ابن عطية : " وما قال بعضُ الناس : مِنْ أنَّ اليمينَ أولُ وَقْعَةٍ للظلِّ بعد الزوالِ ثم الآخر الغروبُ هي عن الشِّمائل ، ولذلك جَمَعَ الشمائل وأَفْرد اليمين ، فتخليطٌ من القول ، ويَبْطُل مِنْ جهات . وقال ابن عباس : " إذا صَلَّيْتَ الفجرَ كان ما بين مَطْلَعِ الشمس ومَغْرِبِها ظِلاًّ ثم بَعَثَ الله عليه الشمسَ دليلاً ، فقبضَ إليه الظلَّ ، فعلى هذا فأوَّلُ ذُرُوْرِ الشمس فالظِّلُّ عن يمينِ مستقبِلِ الجنوب ، ثم يبدأ الانحرافُ فهو عن الشَّمائل ؛ لأنه حركاتٌ كثيرة وظلالٌ متقطعةٌ فهي شمائلُ كثيرةُ ، فكان الظلُّ عن اليمينِ متصلاً واحداً عامّاً لكلِّ شيء " .

السابع : قال ابن الضائع : " أَفْرَدَ وجَمَع بالنظر إلى الغايتين ؛ لأنَّ ظِلَّ الغَداةِ يَضْمَحِلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ ، فكأنه في جهةٍ واحدة ، وهي في العَشِيِّ على العكس لاستيلائِه على جميع الجهات ، فلُحِظَت الغايتان في الآية . هذا من جهةِ المعنى ، وأمَّا مِِنْ جهةِ اللفظ ففيه مطابقةٌ ؛ لأنَّ " سُجَّداً " جمع فطابقه جَمْعُ الشَّمائل لاتصاله به ، فَحَصَل في الآية مطابَقَةُ اللفظِ للمعنى ولَحْظُهما معاً ، وتلك الغايةُ في الإِعجاز " .

قوله : " سُجَّداً " حالاٌ مِنْ " ظلالُه " و " سُجَّداً " جمع ساجِد كشاهِد وشُهَّد ، وراكِع ورُكَّع .

قوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها حالٌ من الهاءِ في " ظلالُه " . قال الزمخشري : " لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون ؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِّبَ " .

وقد رَدَّ الشيخُ هذا : بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه ، وهو نظيرُ : " جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً " قال : " ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا ، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه " .

الثاني : أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في " سُجَّدا " فهي حالٌ متداخلِةٌ .

الثالث : أنها حالٌ مِنْ " ظلالُه " فينتصبُ عنه حالان .

ثم لك في هذه الواو اعتباران ، أحدُهما : أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ ، وليست بواوِ حال ، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ . وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء . والثاني : أنها واوُ الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العاملُ حالين ؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى ، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل ، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور ، ونظير ما نحن فيه : " جاء زيد ضاحكاً وهو شاكٍ " فقولك " وهو شاكٍ " يحتمل الحاليةَ من " زيد " أو من ضمير " ضاحكاً " .

والدُّخور : التواضعُ قال :

فلم يَبْقَ إلا داخِرٌ في مُخَيَّسٍ *** ومُنْجَحِرٌ في غير أرضِكَ في جُحْرِ

وقيل : هو القهرُ والغلبةُ . ومعنى داخِرُون : أَذِلاَّاءُ صاغِرون .