الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا} (79)

قوله : { لِمَسَاكِينَ } : العامَّةُ على تخفيفِ السِّين ، جمعَ " مِسْكين " . وقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين - كرَّم الله وجهَه - بتشديدِها جمع " مَسَّاك " . وفيه قولان ، أحدُهما : أنه الذي يُمْسِك سكان السفينة . وفيه بعضُ مناسبة . والثاني : أنه الذي يَدْبَغُ المُسُوك جمعَ " مَسْك " بفتح الميم وهي الجُلود . وهذا بعيدٌ ، لقولِه { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } . ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين . و " يَعْملون " صفةٌ لمساكين .

قوله : { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } " وراء " هنا قيل : يُراد بها المكانُ . وقيلَ : الزمانُ . واخْتُلِف/ أيضاً فيها : هل هي على حقيقتِها أو بمعنى أمام ؟ وأنشدوا على هذا الثاني :

اليس ورائي أَنْ أَدِبَّ على العَصا *** فَيَأْمَنَ أعدائي ويَسْأَمَني أَهْلي

وقولَ لبيد :

أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي *** لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ

وقول سَوَّار بن المُضَرِّبِ السَّعْدي :

أَيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي *** وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا

ومثله قولُه تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] ، أي : بين يديه .

قوله : " غَصْباً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مصدرٌ في موضعِ الحال ، أو منصوبٌ على المصدرِ المبيِّنِ لنوعِ الأَخْذِ ، أو منصوبٌ على المفعولِ له . وهو بعيدٌ في المعنى . وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً فقال : " فإنْ قلتَ : قولُه " " فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَها " مُسَبَّبٌ عن خوفِ الغَصْبِ عليها فكان حقُّه أن يتأخرَ عن السبب فلِمَ قُدِّم عليه ؟ قلت : النيةُ به التأخيرُ ، وإنما قُدِّمَ للعنايةِ به ، ولأنَّ خَوْفَ الغَصبِ ليس هو السببَ وحدَه ، ولكن مع كونِها للمساكينِ ، فكان بمنزلةِ قولِك : زيدٌ ظنَِّي مقيمٌ " .