الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا} (77)

قوله : { اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } : جواب " إذا " ، أي :سألاهم الطعامَ . وفي تكريرِ " أهلَها " وجهان ، أحدهما : أنه توكيدٌ من بابِ إقامةِ الظاهر مُقامِ المضمر كقوله :

لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ *** نغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

والثاني : أنَّه للتأسيسِ ؛ وذلك أنَّ الأهلَ المَأْتِيِّين ليسوا جميعَ الأهل ، إنما هم البعضُ ، إذ لا يمكن أَنْ يأتيا جميعَ الأهلِ في العادة في وقتٍ واحد ، فلمَّا ذَكَرَ الاستطعامَ ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل كأنهما تَتَبَّعا الأهلَ واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم لاحتمل أنَّ الضميرَ/ يعودُ على ذلك البعضِ المأتِيِّ دونَ غيرِه ، فكرَّر الأهلَ لذلك .

قوله : { أَن يُضَيِّفُوهُمَا } مفعولٌ به لقولِه " أبَوْا " . والعامَّة على التشديد مِنْ ضَيَّفَه يُضَيِّفه . والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف مِنْ : أضافَه يُضيفه وهما مثل : مَيَّله وأماله .

قوله : { أَن يَنقَضَّ } مفعولُ الإِرادة . و " انقَضَّ " يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار . والمعنى : يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى ، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ . وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال : نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه . ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش " يريد ليُنْقَضَ " مبنياً للمفعول واللامِ ، كهي في قولِه { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ }

[ النساء : 26 ] . وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه { يُرِيدُ أَن يُنقَضَ } بغير لام كي .

وقرأ الزُّهْري " أنْ يَنْقَاضَ " بألفٍ بعد القاف . قال الفارسيُّ : " هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ " أي : هَدَمْتُه فانهدم " . قلت : فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل . والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً . ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال : " مثل : يَحْمارّ " ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ . ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال : " وهو مِنْ قولِك : انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم " .

وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين " يَنْقاص " بالصاد مهملةً ، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه ، أي : كسره . قال ابنُ خالويه : " وتقول العرب " انقاصَتِ السِّنُّ : إذا انشقَّتْ طولاً " . وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ

وقيل : إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان . وأُنْشِد لأبي ذؤيب :

فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه *** لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ

ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً . ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات . أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ . وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ . وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً .

قوله : " لاتَّحّذْتَ " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لتَخِذْتَ " بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ . والباقون : :لاتَّخَذْتَ " بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ . واختُلِفَ : هل هما مِن الأَخْذ ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة ، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ

أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل ؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع . والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب .