الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

قوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، والطلاقُ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرَ طَلَقَتْ المرأةُ طَلاقاً ، وأن يكونَ اسمَ مصدر وهو التطليق كالسلام بمعنى التسليم . ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ ليكونَ المبتدأُ عين الخبرِ ، والتقديرُ : عددُ الطلاقِ المشروعِ فيه الرَّجْعَةُ مرتان .

والتثنية في " مرَّتان " حقيقةٌ يُراد بها شَفْع الواحد . وقال الزمخشري : " إنها من باب التثنية التي يُراد بها التكرير ، وجعلها مثل : لَبَيَّك وسَعْديك وَهَذَاذَيك " . وردَّ عليه الشيخ ذلك " بأنه مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر ، أمّا المناقضةُ فإنه قال : الطلاقُ مرتان ، أي : الطلاقُ الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دونَ الإِرسال دفعةً واحدةً ، فقولُه هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقية . وأمَّا المخالفة فلأنه لا يُراد أن الطلاقَ المشروعَ يقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر ، بل مرتين فقط ، ويَدُلُّ عليه قولُه بعدَ ذلك : " فإمساكُ " أي بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَة الثانية ، " أو تسريحٌ " أي : بالطلقة الثالثة ، ولذلك جاء بعده " فإن طلَّقها " . انتهى ما ردَّ به عليه ، والزمخشري إنما قال ذلك لأجلِ معنى ذكره ، فيُنْظَرُ كلامُه في " الكشاف " ، فإنه صحيحٌ .

والألفُ وللام في " الطلاق " قيل : هي للعهدِ المدلولِ عليه بقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وقيل : هي للاستغراق ، وهذا على قولنا : إن هذه الجملة مقتطعة مِمَّا قبلَها ولا تَعَلُّقَ لها بها .

قوله : { فَإِمْسَاكٌ } في الفاء وجهان ، أحدُهما : أنها للتعقيبِ ، أي : بعد أن عرَّفَ حكم الطلاقِ الشرعي أنه مرتان ، فيترتب عليه أحدُ هذين الشيئين . والثاني : أن تكونَ جوابَ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : فإنْ أوقعَ الطَّلْقَتَيْنِ ورَدَّ الزوجةَ فإمساكُ .

وارتفاعُ " إمساك " على أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ : إمَّا مبتدأ وخبرُه محذوفٌ متقدماً ، تقديرُه [ عند ] بعضِهم : فعليكم إمساكُ ، وقَدَّره ابنُ عطية متأخراً ، تقديرُه : فإمساكٌ أمثلُ أو أحسنُ . والثاني : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : فالواجبُ إمساكُ . والثالث : أن يكونَ فاعلَ فعلٍ محذوفٍ أي : فليكن إمساكٌ بمعروف .

قوله : { بِمَعْرُوفٍ } و " بإحسان " في هذه الباءِ قولان ، أحدُهما : أنها متعلقةٌ بنفسِ المصدرِ الذي يليه . ويكونُ معناها الإِلصاق . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لما قبلها ، فتكونَ في محلِّ رفعٍ أي : فإمساكٌ كائنٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ كائنٌ بإحسان .

والتسريحُ : الإِرسالُ والإِطلاقُ ، ومنه قيل للماشيةِ : سَرْح ، وناقة سُرُح ، أي : سَهْلَةُ السير لاسترسالها فيه . قالوا : ويجوزُ في العربيةِ نَصْبُ " فإمساكُ " و " تسريحٌ " على المصدرِ ، أي : فأمسكوهُنَّ إمساكاً بمعروفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان ، إلا أنه لم يَقْرأ به أحدٌ .

قوله : { أَن تَأْخُذُواْ } أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعلٌ يَحِلُّ ، أي : ولا يَحِلُّ لكم أخْذُ شيءٍ مِمَّا آتيتموهنَّ .

و " مِمَّا " فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بنفسِ " تأخذوا " ، و " مِنْ " على هذا لابتداءِ الغايةِ . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " شيئاً " قُدِّمتَ عليه ، لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً . و " مِنْ " على هذا للتبعيضِ . و " ما " موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديرُه : من الذي آتيتموهُنَّ إياه . وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حَذْفِ العائدِ المنصوبِ المنفصلِ عند قوله تعالى { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ يس : 54 ] . وهذا مثلُه فَلْيُلْتفتْ إليه .

و " آتى " يتعدَّى لاثنين أولُهما " هُنَّ " والثاني هو العائدُ المحذوفُ . و " شيئاً " مفعولٌ به ناصبُه " تأخذوا " . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً أي : شيئاً من الأخْذِ . والوجهانِ منقولانِ في قوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ البقرة : 3 ] قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } هذا استثناءٌ مفرغٌ ، وفي " أَنْ يخافا " وجهان ، أحدُهما : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِه ، فيكونُ مسثتنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ ، والتقديرُ : ولا يَحِلُّ لكم أن تأخُذوا بسبب من الأسباب إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حدودِ الله ، وحُذِفَ حرفُ العلةِ لاستكمالِ شروطِ النصب ، لا سيما مع " أَنْ " ، ولا يجيء هنا خلافُ الخليل وسيوبه : أهي في موضعِ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ اللامِ ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط ، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّح به لنُصِبَ وهذا قد نصَّ عليه النحويون ، أعني كونَ أَنْ وما بعدها في محلِّ نصبٍ بلا خلافٍ إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له .

والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيكونُ مستثنىً من العامِّ أيضاً تقديرُه : ولا يحِلُّ لكم في كلَّ حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ خوفِ ألاَّ يقيما/ حدودَ الله . قال أبو البقاء : والتقديرُ : إلاَّ خائفين ، وفيه حَذْفُ مضافٍ تقديرُه : ولا يَحِلُّ أَنْ تأخذوا على كلِّ حال أو في كلِّ حالٍ إلا في حالِ الخوفِ . والوجهُ الأولُ أحسنُ وذلك أنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسمِ الفاعلِ المنصوبِ على الحال ، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً فكيف بما هو في تأويله ! ! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ " أَنْ " المصدرية لا تقع موقعَ الحالِ .

والألفُ في قوله " يخافا " و " يُقيما " عائدةٌ على صنفي الزوجين . وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلامِ لقيل : " ألاَّ أَنْ تَخافوا ألاَّ تقيموا بتاءِ الخطابِ للجماعةِ ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله ، ورُوي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبة وهو التفاتٌ إيضاً .

والقراءةُ في " يخافا " بفتحِ الياءِ واضحةٌ ، وقرأها حمزة بضمِّها على البناء للمفعول . وقد استشكلها جماعة وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب .

وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً . أحسنُها أَنْ يكونَ " أَنْ يقيما " بدلاً من الضميرِ في " يخافا " لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه ، تقديرُه : إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله ، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك : " الزيدان أعجباني عِلْمُهما " ، وكان الأصلُ : إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألاَّ يقيما حدودَ الله ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو " الوُلاةُ " للدلالة عليه ، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وبقيتْ " أَنْ " وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه .

وقد خَرَّجه ابن عطية على أنَّ " خاف " يتعدَّى إلى مفعولين كاستغفر ، يعني إلى أحدِهما بنفسِه وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، وأَنْ وما في حَيِّزها هي الثاني ، وجَعَل " أَنْ " في محلِّ جرٍ عند سيبويه والكسائي . وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا التخريج بأنَّ " خافَ " لا يتعدَّى لاثنين ، ولم يَعُدَّه النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعدَّى لاثنين ، ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك : " خِفْتُ زيداً ضَرْبَه " ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به ، فليس هو كالثاني في " استغفرت الله ذنباً " ، وبأن نسبة كَوْن " أَنْ " في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيح ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصب وتبعه الفراء ، ومذهبُ الخليل أنها في محلِّ جر ، وتَبِعه الكسائي . وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ .

وقال غيرُه كقولِه ، إلاَّ أنَّه قَدَّر حرفَ الجرِّ " على " والتقدير : إلاَّ أن يَخاف الولاةُ الزوجين على ألاّ يقيما ، فبُني للمفعولِ ، فقام ضميرُ الزوجينِ مَقامَ الفاعلِ ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ " أَنْ " ، فجاء فيه الخلافُ المتقدمُ بين سيبويه والخليلِ .

وهذا الذي قاله ابنُ عطيةُ سَبَقَه إليه أبو علي ، إلاَّ أنه لم يُنْظِّرْه ب " استغفر " .

وقد استشكل هذا القراءةَ قومٌ وطَعَنَ عليها آخرون ، لا علمَ لهم بذلك ، فقال النحاس : " لا أعلمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحرفِ ، لأنه لا يُوجِبه الإِعرابُ ولا اللفظُ ولا المعنى : أمّا الإِعرابُ فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ { إلاَّ أَنْ تخافوا ألاَّ يقيموا } فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه كان ينبغي أَنْ يُقال : { إلاَّ أَنْ يُخاف } . وأمَّا اللفظُ : فإنْ كان على لفظِ " يُخافا " وَجَبَ أَنْ يقال : فإن خيف ، وإن كان على لفظ " خِفْتُم " وَجَب أن يقال : إلاَّ أَنْ تَخافوا . وأمَّا المعنى : فَأَسْتبعدُ أن يُقالَ : " ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مِمَّا آتيتموهُنَّ شيئاً إلا أن يَخاف غيرُكم ، ولم يَقُلْ تعالى : ولا جُنَاح عليكم أن تَأْخُذوا له منها فديةً ، فيكون الخَلْعُ إلى السلطان والفَرْضُ أنَّ الخَلْعَ لا يحتاج إلى السلطانِ " .

وقد رَدَّ الناسُ على النحاس : أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله . وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ فإنه من باب الالتفاتِ كما قَدَّمْتُه أولاً ، ويَلْزَمُ النحاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يَقْرأ : " فإنْ خافا " ، وإنَّما هو في القراءتين من الالتفاتِ المستحسنِ في العربيةِ . وأمَّا من حيثُ المعنى فلأنَّ الولاةَ هم الأًصلُ في رفعِ التظالمِ بين الناس وهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء .

ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله { إلا أن تَخافوا } وخَطَّأَهُ الفارسي وقال : " لم يُصِبْ ، لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على " أَنْ " ، وفي قراءة حمزةَ واقعٌ على الرجلِ والمرأةِ " . وهذا الذي خَطَّأَ به القرَّاء ليس بشيءٍ ، لأنَّ معنى قراءةِ عبدِ الله : إلاَّ أَنْ تخافُوهُمَا ، أي الأولياءُ الزوجين ألاَّ يُقيما ، فالخوفُ واقعٌ على " أَنْ " وكذلك هي في قراءةِ حمزةَ : الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمَيْنِ : إمَّا على كونِها بدلاً من ضميرِ الزوجينِ كما تقدَّم تقريرُه ، وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو " على " .

والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ ، فتكونُ " أَنْ " في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ ، إذ الأصلُ ، مِنْ أَلاَّ يُقيما ، أو في محلِّ نصبٍ فقط على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ كأنه قيل : إلاَّ أَنْ يَحْذَرَا عدَمَ إقامةِ حدودِ اللَّهِ . والثاني : أنه بمعنى العلمِ وهو قَوْلُ أبي عبيدة ، وأنشد :

فقلتُ لهم خافُوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَراتُهُمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ

ومنه أيضاً :

ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني *** أخافُ إذا ما مِتُّ أَلاَّ أَذُوقُها/

ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعدَ أَنْ ، وهذا لا يَصِحُّ في الآيةِ لظهورِ النصبِ . وأمَّا البيتُ فالمشهورُ في روايتِهِ " فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ " . والثالث : الظنَّ ، قاله الفراء ، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ : { إلاَّ أنْ يَظُنَّا } وأنشد :

أتاني كلامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يقولُه *** وما خِفْتُ يا سَلاَّمُ أنَّكَ عائِبي

وعلى هذينِ الوجهينِ فتكونُ " أَنْ " وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويه ومسدَّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة ، والأولُ هو الصحيحُ ، وذلك أَنَّ " خافَ " مِنْ أفعالِ التوقع ، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَيْنِ ، ولذلك قال الراغب : " الخوفُ يُقال لِما فيه رجاءٌ ما ، ولذلك لا يُقال : خِفْتُ أَلاَّ أقدر على طلوعِ السماءِ أو نَسْفِ الجبالِ " .

وأصلُ يُقيما : يُقْوِما ، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها ، ثم قُلِبَتْ الواوُ ياءً لسكونِها بعد كسرةٍ ، وقد تقدَّم تقريرُه في قولِهِ : { الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

[ الفاتحة : 5 ] وزعم بعضُهم أنَّ قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } معترضٌ بين قولِهِ : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } وبين قولِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } وفيه بُعْدٌ .

قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } " لا " واسمُها وخبرُها ، وقولُه : { فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تضمَّنَهُ الخبرُ وهو : " عَلَيْهِما " . ولا جائزٌ أن يكونَ " عليهما " متعلقاً " ب " جُنَاح " ، و " فيما افتَدَتْ " الخبرَ ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ .

والضميرُ في " عليهِما " عائدٌ على الزوجينِ ، أي لا جُنَاحَ على الزوجِ فيما أَخَذَ ، ولا على المرأةِ فيما أَعْطَتْ . وقال الفراء : " إنَّما يعودُ على الزوجِ فقط ، وإنما أعادَهُ مُثَنَّى والمرادُ واحِدٌ كقولِهِ تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] وقولُه :

فإنْ تَزْجُرَاني يا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ *** وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا

وإنما يخرجُ من الملحِ ، والناسي يُوشَعُ وحدَه ، والمنادى واحدٌ في قوله : " يابنَ عفان " . و " ما " بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفة ، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ مِنْ " به " عليها ، إلا على رَأْيِ مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً كالأخفشِ وابنِ السراج و [ مَنْ ] تابَعهما .

قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قولِهِ : { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } إلى هنا .

وقوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أصلُه : تَعْتَدِيُوهَا ، فاسْتُثْقِلَتِ الضمَّةُ على الياءِ ؛ فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضمير ساكنةٌ ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ ، وضُمَّ ما قبلَ الواوِ لتصِحَّ ، ووزنُ الكَلِمَةِ : تَفْتَعُوها .

قوله : { وَمَن يَتَعَدَّ } " مَنْ " شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، وفي خبرِها الخلافُ المتقدِّمُ .

وقوله : { فَأُوْلَئِكَ } جوابُها . ولا جائزٌ أَنْ تَكونَ موصولةً ، والفاءُ زائدةً في الخبرِ لظهورِ عملِها الجزمَ فيما بعدَها . و " هم " من قوله : " فأولئك هم " يحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ فصلاً . والثاني : أن يكونَ بدلاً و " الظالمون " على هذين خبرُ " أولئك " والإِخبارُ بمفردٍ . والثالث : أن يكونَ مبتدأً ثانياً ، و " الظالمونَ " خبرَه ، والجملةُ خبرَ " أولئك " ، والإِخبارُ على هذا بجملةٍ ولا يَخْفى ما في هذه الجملةِ من التأكيدِ من حيثُ الإِتيانُ باسمِ الإِشارةِ للبعيدِ وتوسُّطُ الفصل والتعريفُ باللامِ في " الظالمون " أي : المبالغون في الظلم . وَحَمَل أولاً على لفظِ " مَنْ " فَأَفْرَد في قولِهِ " يَتَعَدَّ " ، وعلى معناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِهِ : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .