الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

قولُه تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } : أي : مِنْ بعدِ الطلاقِ الثالثِ ، فلمَّا قُطِعَتْ " بعدُ " عن الإِضافةِ بُنِيَتْ على الضَّمِّ لِما تَقَدَّم تقريُرُه . و " له " و " مِنْ بعد " و " حتى " ثلاثتُها متعلقةٌ ب " يَحِلُّ " . ومعنى " مِنْ " ابتداءُ الغايةِ واللامُ للتبليغِ ، وحتى للتعليل ، كذا قال الشيخ ، والظاهرُ أنها للغايةِ ، لأنَّ المعنى على ذلك ، أي : يمتدُّ عدمُ التحليلِ له إلى أَنْ تنكَحَ زوجاً غيرَه ، فإذا طَلَّقها وانقَضَتْ عِدَّتُها منه حَلَّت للأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ، ويَدُلُّ على هذا الحذفِ فحوى الكلامِ .

و " غيرَه " صفةٌ ل " زوجاً " ، وإن كان نكرةً ، لأنَّ " غير " وأخواتِها لا تتعرَّفُ بالإِضافة لكونِها في قوةِ اسمِ الفاعلِ العاملِ . و " زوجاً " هل هو للتقييد أو للتوطِئَةِ ؟ وينبني على ذلكَ فائدةٌ ، وهي أنه إنْ كان للتقييدِ : فلو كانت المرأةُ أَمَةً وطَلَّقها زوجُها ثلاثاً ووطئِها سَيِّدُها لم تَحِلُّ للأولِ لأنه ليس بزوجٍ ، وإن كانت للتوطئةِ حَلَّتْ ، لأنَّ ذِكْرَ الزوج كالمُلْغَى ، كأنه قيل : حتى تنكِحَ غيره ، وإنما أتى بلفظ " زَوْج " لأنه الغالبُ .

قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الضميرُ المرفوعُ عائدٌ على " زوجاً " النكرةِ ، أي : فإنْ طَلَّقها ذلك الزوجُ الثاني ، وأتى بلفظِ " إنْ " الشرطية دونَ " إذا " تنبيهاً أنَّ طلاقَه يجبُ أن يكونَ باختياره من غيرِ أَنْ يُشترط عليه ذلك ، لأنَّ " إذا " للمحققِ وقوعُه و " إنْ للمبهم وقوعُه أو المتحقَّقِ وقوعُه ، المبهمِ زمانُ وقوعِه ، نحو قولِهِ تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] قوله : { عَلَيْهِمَآ } الضميرُ في " عليهما " يجوزُ أن يعودَ على المرأةِ والزوجِ الأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ، أي : فإنْ طَلَّقَها الثاني وانقَضَتْ عِدَّتُها منه فلا جُنَاحَ على الزوجِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ولا عليها أن يتراجَعَا . ويجوزُ أن يعودَ عليها وعلى الزوجِ الثاني ، أي : فلا جُنَاحَ على المرأةِ ولا على الزوجِ الثاني أَنْ يتراجَعَا ما دامَتْ عِدَّتُها باقيةً ، وعلى هذا فلا يُحْتَاجُ إلى حَذْفِ تلك الجملةِ المقدَّرَةِ وهي " وانقَضَتْ عِدَّتُها " وتكون الآيةُ قد أفادَتْ حكمينِ ، أحدُهما : أَنها لا تَحِلُّ للأول إلاَّ بعدَ أن تتزوجَ بغيرِهِ ، والثاني : أنه يجوزُ أَنْ يراجِعَها الثاني ما دامَتْ عِدَّتُها منه باقيةً ، ويكونُ ذلك دفعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنها إذا نَكَحَتْ غيرَ الأولِ حَلَّت للأولِ فقط ولم يكُنْ للثاني عليها رَجْعَةٌ .

قوله : { أَن يَتَرَاجَعَآ } أي : في أَنْ ، ففي محلِّها القولانِ المشهوران ، و " عليهما " خبرُ " لا " ، و " في أن " متعلِّقٌ بالاستقرارِ ، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ أن يكونَ " عليهما " متعلقاً " ب " جُنَاح ، والجارُّ الخبرُ ، لما يَلْزَمُ من تنوينِ اسمِ " لا " ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً .

قولُهُ : " إنْ ظَنَّا " شرطٌ جوابُهُ محذوفٌ عند سيبويهِ لدلالةِ ما قبلَه عليه ، ومتقدِّمٌ عند الكوفيين وأبي زيد . والظَّنُّ هنا على بابِهِ من ترجيحِ أحدِ الجانبين ، وهو مُقَوٍّ أن الخوفَ المتقدِّمَ بمعنى الظَّنِّ . وزعم أبو عبيدة وغيرُهُ أنه بمعنى اليقين ، وضَعَّفَ هذا القولَ الزمخشري لوجهين ، أحدُهما من جهةِ اللفظِ وهو أَنَّ " أَنْ " الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففةِ منها ، لا تقول : عَلِمْتُ أَنْ يقومَ زيدٌ/ ، إنما تقولُ : عَلِمْتُ أن يقومَ زيدٌ . والثاني من جهةِ المعنى : فإنَّ الإِنسانَ لا يتيقَّنُ ما في الغدِ وإنما يَظُنُّه ظناً .

قال الشيخ : " أمَّا ما ذكرَهُ من أنه لا يقال : " علمت أن يقومَ زيد " فقد ذكره غيرُه مثل الفارسي وغيره ، إلا أن سيبويه أجاز : " ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ " فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي . قال بعضُهم : الجمعُ بينهما أنَّ " عَلِمَ " قد يُرَادُ بها الظَّنُّ القويُّ كقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }

[ الممتحنة : 10 ] وقوله :

وأعلمُ علمَ حقٍ غيرِ ظنٍّ *** وتَقْوى اللَّهِ من خير العتادِ

فقوله : " علمَ حق " يُفْهَمُ منه أنه قد يكونُ علمَ غيرِ حق ، وكذا قولُه : " غيرِ ظَنٍّ " يُفْهَمُ [ منه ] أنه قد يكونُ عِلْمٌ بمعنى الظن . ومِمَّا يدلُّ على أنَّ " عَلِمَ " التي بمعنى " ظَنَّ " تعملُ في " أَنْ " الناصبةِ قولُ جرير :

نرضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد علموا *** أنْ لا يدانَينا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ

ثم قال الشيخ : " وَثَبَت بقولِ جرير وتجويز سيبويهِ أنَّ " عَلِمَ " تعملُ " أَنْ " الناصبةِ ، فليسَ بوهمٍ من طريقِ اللفظِ كما ذكره الزمخشري . وأَمَّا قولُهُ : " لأنَّ الإِنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ " فليسَ كما ذَكَرَ ، بل الإِنسانُ يعلمُ أشياءَ كثيرةً واقعةً في الغدِ وَيَجْزِمُ بها " وهذا الرَّدُّ من الشيخِ عجيبٌ جداً ، كيف يُقال في الآية : إنَّ الظن بمعنَى اليقين ، ثم يَجْعَل اليقينَ بمعنى الظن المسوغِ لعمِلِهِ في " أَنْ " الناصبةِ . وقولُهُ " لأنَّ الإِنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد " مُسَلَّمٌ ، لكنْ ليس هذا منها .

وقوله : { أَن يُقِيمَا } إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولَيْن ، أو الأولِ والثاني محذوفٌ ، على حَسَبِ المذهبين المتقدمين .

قوله : { يُبَيِّنُهَا } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً بعد خبرٍ ، عند مَنْ يرى ذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُها " حدودُ الله " والعاملُ فيها اسمُ الإِشارة وقُرِىءَ : " نبيِّنها " بالنون ، ويُروى عن عاصم ، على الالتفاتِ من الغَيْبَةِ إلى التكلم للتعظيم . و " لقومٍ " متعلقٌ به . و " يعلمون " في محلِّ خفضٍ صفةً لقومٍ . وخَصَّ العلماءَ بالذكرَ لأنهم هم المنتفعون بالبيانِ دونَ غيرهم .