الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡيَتَٰمَىٰۖ قُلۡ إِصۡلَاحٞ لَّهُمۡ خَيۡرٞۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (220)

قوله تعالى : { فِي الدُّنْيَا } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أن يتعلَّقَ بيتفكرون على معنى يتفكرون في أمرهما ، فيأخذونَ ما هو الأصلحُ ، ويُؤْثِرُون ما هو أبقى نفعاً . والثاني : أن يتعلَّقَ ب " يبيِّن " ويُرْوَى معناه عن الحسن ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يُقَدَّر مضافٍ ، أي : في أمرِ الدنيا والآخرة ، ويُحْتَمل ألاَّ يقدَّرَ ، لأنَّ بيانَ الآيات وهي العلاماتُ يظهرُ فيها . وجعل بعضُهم قولَ الحسن من التقديم والتأخير ، ثم قال : " ولا حاجة لذلك ، لحَمْلِ الكلام على ظاهره ، يعني مِنْ تعلق في الدنيا ب " تتفكرون " . وهذا ليس من التقديم والتأخير في شيء ، لأنَّ جملةَ الترجِّي جاريةٌ مَجْرى العلةِ فهي متعلقةٌ بالفعل معنى ، وتقديمُ أحدِ المعمولاتِ على الآخرِ لا يقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، ويُحْتَمل أن تكونَ اعتراضيةً فلا تقديمَ ولا تأخيرَ .

والثالث : ان تتعلَّق بنفسِ " الآيات " لِما فيها من معنى الفعل وهو ظاهرُ قول مكي فيما فهمه عنه ابنُ عطية . قال مكي : " معنى الآيةِ أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدنيا والآخرةِ يَدُلُّ عليها وعلى منزِلَتِها لعلهم يتفكرون في تلك الآيات " قال ابن عطية : " فقولُه : " في الدنيا " يتعلَّقُ على هذا التأويلِ بالآيات " وما قاله عنه ليس بظاهرٍ ، لأنَّ شرحَهُ الآيةُ لا يقتضي تَعَلُّقَ الجار بالآيات . ثم إن عنى ابنُ عطية بالتعلُّق التعلُّق/ الاصطلاحي ، فقال الشيخ : " فهو فاسدٌ ، لأنَّ " الآيات " لا تعملُ شيئاً البتة ، ولا يتعلَّقُ بها ظرفٌ ولا مجرورٌ " وهذا من الشيخ فيه نظرٌ ، فإن الظروفَ تتعلَّقُ بروائح الأفعال ، ولا شك أن معنى الآياتِ العلاماتُ الظاهرةُ فيتعلَّق بها الظرفُ على هذا . وإن عنى التعلقَ المعنويَّ وهو كونُ الجارِّ من تمام معنى " الآيات " فذلك لا يكون إلا إذا جَعَلْنا الجارَّ حالاً من " الآيات " ولذلك قَدَّرَها مكي نكرةً فقال : " يبيِّن لهم آياتٍ في الدنيا " لِيُعْلِمَ أنها واقعةً موقعَ الصفةِ لآيات ، ولا فرقَ في المعنى بين الصفةِ والحالِ فيما نحن بصدده ، فعلى هذا تتعلق بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً .

الرابع : أن تكونَ حالاً من " الآيات " كما تقدَّم تقريرُه الآن . الخامسُ : أن تكون صلةً للآيات فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً ، وذلك مذهبُ الكوفيين فإنهم يَجْعَلُون من الموصولات الاسمَ المعرَّفَ بأَل وأنشدوا :

لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ *** وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ

ف " البيت " عندهم موصول ، ولتقرير مذهبِهم والردِّ عليه موضعٌ هو أليقُ به .

والتَّفكُّر : تَفَعُّل من الفِكْر ، والفِكْر : الذهنُ ، فمعنى تفكَّر في كذا : أجال ذهنَه فيه وردَّده .

قوله : { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } " إصلاحٌ " مبتدأ ، وسَوَّغَ الابتداءَ به أحدُ شيئين : إمَّا وصفُه بقوله " لهم " ، وإمَّا تخصيصُه بعملِه فيه ، و " خيرٌ " خبرُه .

و " إصلاحٌ " مصدرٌ حُذِفَ فاعلُهُ ، تقديره : إصلاحُكم له ، فالخيريَّةُ للجانبين أعني جانبَ المُصْلِحِ والمُصْلَح له ، وهذا أَوْلى من تخصيصِ أحدِ الجانبين بالإصلاح كما فَعَلَ بعضُهم . قال أبو البقاء : " فيجوزُ أن يكونَ التقديرُ : " خيرٌ لكم " ، ويجوز أن يكونَ : " خيرٌ لهم " أي إصلاحُهم نافعٌ لكم " .

و " لهم " : إمَّا في محلِّ رفعٍ على أنه صفةً ل " خير " ، أو نصبٍ على أنه متعلق به معمول له كما تقدم . وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من " خير " قُدِّم عليه ، وكان أصلُه صفةً فلما قُدِّم انتصَبَ حالاً عنه ، واعتذَرَ عن الابتداءِ بالنكرةِ حينئذٍ بأحد وجهينِ : إمَّا لأنَّ النكرةَ في معنى الفعلِ تقديرُه : أَصْلِحُوهم ، وإمَّا بأنَّ النكرةَ والمعرفة هنا سواءٌ لأنَّه جنسٌ .

قوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء جوابُ الشرط ، و " إخوانُكم " خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : فهم إخوانُكم . والجملةُ ي محلِّ جزمٍ على جوابِ الشرط . والجمهورُ على الرفع ، وقرأ أبو مُجْلز : " فإخوانَكم " نصباً بفعل مقدر ، أي : فقد خالَطْتُم إخوانَكم . والجملةُ الفعلية أيضاً في محلِّ جزمٍ ، وكأن هذه القراءة لم يَطَّلِعْ عليها أبو البقاء ، فإنه قال : " ويجوزُ النصبُ في الكلام ، أي : فقد خالطْتُم إخوانَكم " .

وقوله : { يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } تقدَّم الكلام عليه في قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ } [ البقرة : 143 ] ، والمُفْسِدُ والمُصْلِحُ جنسان هنا ، وليس الألف واللام لتعريفِ المعهود ، وهذا هو الظاهرُ . وقد يجوز أن تكونَ للعهدِ أيضاً .

وفي قوله : { تُخَالِطُوهُمْ } التفاتٌ من ضميرِ الغيبةِ في قولِهِ : " ويسألونك " إلى الخطابِ لينبِّه السامعَ إلى ما يُلْقَى إليه . ووقََع جوابُ السؤالِ بجملتين : إحداهما من مبتدأٍ وخبرٍ ، وأُبْرِزَتْ ثبوتيةً مُنَكَّرَة المبتدإِ لتدلَّ على تناولِهِ كلَّ إصلاح على طريقِ البدليةِ ، ولو أُضيفَ لَعَمَّ أو لكانَ معهوداً في إصلاحٍ خاص ، وكلاهُما غيرُ مرادٍ ، إمَّا العمومُ فلا يُمْكِنُ ، وأمَّا المعهودُ فلا يتناولُ غيره ؛ فلذلك أُوثر التنكيرُ الدالُّ على عمومِ البدل ، وأُخْبِرَ عنه ب " خير " الدالِّ على تحصيل الثواب ، ليتبادَرَ المسلمُ إليه . والآخرُ من شرطٍ وجزاءٍ ، دالّ على جوازِ الوقوعِ لا على طلبه وندبيَّتِهِ .

قوله : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ } مفعولُ " شاءَ " محذوفٌ ، أي : إعناتَكم . وجوابُ لو : " لأعنَتَكم " ، وهو الكثيرُ أعني ثبوتَ اللامِ في الفعلِ المُثْبَتِ .

والمشهورُ قطعُ همزةِ " لأعنتكم " لأنها همزةُ قطعٍ . وقرأ البزي عن ابن كثير في المشهور بتخفيفِها بينَ بينَ ، وليس من أصلِهِ ذلك ، ورُوِيَ سقوطُها البتة ، وهي كقراءة : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] شذوذاً وتوجيهاً . ونسبَ بعضُهم هذه القراءة إلى وَهْم الراوي ، باعتبارِ أنه اعتقدَ في سماعِهِ التخفيفَ إسقاطاً ، لكنَّ الصحيحَ ثبوتُها شاذةً .

والمخالطةُ : الممازَجَةُ . والعَنَتُ : المشقةُ ، ومنه " عَقَبَةٌ عَنَوُتٌ " ، أي : شاقةُ المَصْعَدِ .