الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ} (60)

قوله : { يَذْكُرُهُمْ } : في هذه الجملةِ [ وجوهٌ ] أحدُها : أنَّ " سمع " هنا تتعدَّى لاثنين لأنها متعلقةٌ بعين ، فيكونُ " فتىً " مفعولاً أول ، و " يَذْكُرُهم " هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍفعولاً ثانياً ، ألا ترى أنَّك لو قلتَ : " سمعتُ زيداً " وسكتَّ لم يكن كلاماً بخلافِ سمعت قراءتَه وحديثَه . والثاني : أنَّها في محلِّ نصب أيضاً صفةً لإِبراهيم ، قال الزمخشري : " فإن قلتَ : ما حكمُ الفعلَيْن بعد " سمعنا " وما الفرقُ بينهما ؟ قلت : هما صفتان ل " فَتَىً " ؛ إلاَّ أنَّ الأولَ وهو " يَذْكُرهم " لا بُدَّ منه ل " سَمِعَ " ؛ لأنك لا تقول : سمعت زيداً ، وتسكتُ ، حتى تذكرَ شيئاً ممَّا يُسْمع ، وأمَّا الثاني فليس كذلك " .

قلت : هذا الذي قاله لا يتعيَّنُ ؛ لِما عَرَفْتَ أنَّ " سَمِعَ " إنْ تعلَّقَتْ بما يُسْمع نحو " سمعت مقالةَ بكرٍ " فلا خلاف أنها تتعدَّى لواحدٍ ، وإن تَعَلَّقَتْ بما لا يُسْمَع فلا يُكتْفى به أيضاً بلا خلافٍ ؛ بل لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شيءٍ يُسْمَعُ فلو قلت : " سمعتُ زيداً " وسَكَتَّ ، أو " سمعتُ زيداً يركبُ " لم يَجُزْ . فإنْ قلتَ : سمعتُه يَقْرأ صَحَّ . وجرى في ذلك خلافٌ بين النحاةِ ، فأبوا علي يجعلُها متعديةً لاثنين ولا يَتَمَشَّى عليه قولُ الزمخشري ، وغيرُه يَجْعلها متعديةً لواحد ، ويجعلُ الجملةَ بعد المعرفةِ حالاً ، وبعد النكرةِ صفةً ، وهذا أراد الزمخشري .

قوله : { إِبْرَاهِيمُ } في رفع " ابراهيمُ " أوجهٌ أحدُها : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي : قال له هذا اللفظَ ، ولذلك قال أبو البقاء : " فالمرادُ الاسمُ لا المُسَمَّى " وفي هذه المسألةِ خلافٌ بين النحويين : أعني تَسَلُّطَ القولِ على المفردِ الذي لا يؤدي معنى جملة ، ولا هو مقتطعٌ من جملة ، ولا هو مصدرٌ ل " قال " ، ولا هو صفةٌ لمصدرِه نحو : قلتُ زيداً ، أي : قلت هذا اللفظ ، فاختاره جماعة كالزجاجيِّ والزمخشريِّ وابنِ خروف وابنِ مالك ، ومنعه آخرون . وممَّن اختارَ رفعَ " إبراهيمُ " على ما ذكرْتُ الزمخشري وابنُ عطية . أمَّا إذا كان المفردُ مؤدياً معنى جملةٍ كقولهم : قلتُ خطبةً وشعراً وقصيدةً ، أو اقْتُطِع من جملة كقوله :

إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامَةٍ *** مُعَتَّقَةٍ ممَّا يجيءُ به التُّجُرْ

أو كان مصدراً نحو : قلتُ قولاً ، أو صفةً له نحو : قلتُ حقاً أو باطلاً ، فإنَّه يَتَسَلَّطُ عليه . كذا قالوا : وفي قولهم " المفردُ المقتطعُ من الجملة " نظرٌ لأن هذا لم يَتَسَلَّطْ عليه القولُ ، إنما يتسلَّطُ على الجملةِ المشتملةِ عليه .

الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : يقال له : هذا إبراهيمُ ، أو هو إبراهيمُ . الثالث : أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر أي : يقال له : إبراهيمُ فاعلٌ ذلك . الرابع : أنّه منادى وحرف النداءِ محذوفٌ أي : يا إبراهيمُ ، وعلى الأوجه الثلاثةِ فهو مقتطعٌ من جملةٍ ، وتلك الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بيُقال . وقد تقدَّم تقريرُ هذا في البقرة عندَ { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ الآية : 58 ] رفعاً ونصباً . وفي الأعرافِ عند قولِه { قَالُواْ مَعْذِرَةً } [ الآية : 164 ] رفعاً ونصباً .

والجملةُ من " يُقال له " يُحتمل أَنْ تكونَ مفعولاً آخرَ نحو قولك : " ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً " وأن تكونَ صفةً على رأيِ الزمخشريِّ ومَنْ تابعه ، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ " فتى " . وجاز ذلك لتخصُّصِها بالوصف .