اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ} (60)

قوله : { يَذْكُرُهُمْ } . في هذه الجملة أوجه :

أحدها : أن «سمع » هنا يتعدى لاثنين ، لأنها متعلقة بعين ، فيكون «فَتًى » مفعولاً أولاً و «يَذْكُرُهُمْ » هذه الجملة في محل نصب مفعول ثانياً ، ألا ترى أنك لو قلت : سَمِعْتُ زَيْداً ، وسَكتّ لم يكن كلاماً بخلاف : سمعت قراءته وحديثه{[28801]} .

والثاني : أنها في محل نصب أيضاً صفة ل «إبراهيم » .

قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما حكم الفعلين بعد «سَمِعْنَا » ، وما الفرق بينهما ؟ قلت : هما صفنان ل «فَتًى » إلاَّ أنَّ الأول وهو «يَذْكُرُهُمْ » لا بدَّ منه{[28802]} ل «سَمِع »{[28803]} لأنك لا تقول : سَمِعْتُ زَيْداً وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع ، وأما الثاني فليس كذلك{[28804]} . وهذا الذي قاله{[28805]} لا يتعين لما عرفت أن{[28806]} سمع إن تعلقت بما سمع{[28807]} نحو سمعت مقالة بكر فلا خلاف أنها تتعدى لواحد . وإن تعلقت بما لا يسمع فلا يكتفى به أيضاً بلا خلاف بل لا بدّ من ذكر شيء يسمع ، فلو قلت : سَمِعْتُ زَيْداً ، وسكت ، أم سَمِعْتُ زَيْداً يركب ، لم يجز ، فإن قلت : سمعته يقرأ صح ، وجرى في ذلك خرف بين النحاة فأبو علي يجعلها متعدية لاثنين ، ولا يتمشى عليه قول الزمخشري . وغيره يجعلها متعدية لواحد ، ويجعل الجملة بعد المعرفة حالاً وبعد النكرة صفة ، وهذا أراد الزمخشري{[28808]} .

قوله : { إِبْرَاهِيمُ } . في رفع «إِبْرَاهِيمُ » أوجه :

أحدها : أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله ، أي : يقال له هذا اللفظ ، وكذلك قال أبو البقاء : فالمراد الاسم لا المسمى{[28809]} . وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين أعني تسلط القول على المفرد الذي يؤدي معنى جملة ولا هو مقتطع من جملة ، ولا هو مصدر ل «قال » ، ولا هو صفة لمصدره نحو : قلت زَيْداً ، أي : قلت هذا اللفظ ، فأجازه جماعة كالزجاجي{[28810]} والزمخشري وابن خروف{[28811]} وابن مالك ، ومنعه آخرون{[28812]} . وممن اختار رفع «إِبْرَاهِيمُ » على ما ذكرت{[28813]} الزمخشري وابن عطية{[28814]} . أمَّا إذا كان المفرد مؤدياً معنى جملة كقولهم : قلت خطبة وشعراً وقصيدة أو اقتطع من جملة كقوله :

3729- إذَا ذُقْتَ فَاهَا قُلْتَ طَعْمُ مُدَامةٍ *** مُعَتَّقَةٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ التُّجُرْ{[28815]}

أو كان مصدراً نحو قُلْتُ قَوْلاً ، أو صفة له نحو : قُلْتُ حقاً أو باطِلاً ، فإنه يتسلط عليه كذا قالوا{[28816]} . وفي قولهم : المفرد المقتطع من الجملة نظر ، لأنَّ هذا لم يتسلط عليه القول إنما تسلط{[28817]} على الجملة المشتملة عليه .

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، يقال له : هذا إبراهيم ، أو هو إبراهيم{[28818]} .

الثالث : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : يقال له إبراهيم فاعل ذلك{[28819]} .

الرابع : أنه منادى وحرف{[28820]} النداء محذوف أي : يا إبراهيم{[28821]} .

وعلى الأوجه الثلاثة فهو مقتطع من جملة ، وتلك الجملة محكية ب «يُقَالُ » وتقدم تحقيق{[28822]} هذا في البقرة عند قوله { وَقُولُواْ حِطَّةٌ }{[28823]} رفعاً ونصباً ، وفي الأعراف عند قوله { قَالُواْ مَعْذِرَةً }{[28824]} رفعاً ونصباً . والجملة من «يُقَالُ لَهُ »{[28825]} يحتمل أن تكون مفعولاً آخر نحو ظننت زيداً كاتباً شاعراً . وأن تكون على رأي الزمخشري{[28826]} ومن تابعه وأن تكون حالاً من «فَتًى » وجاز ذلك لتخصصها بالوصف{[28827]} .


[28801]:انظر التبيان 2/921.
[28802]:في ب: فيه. وهو تحريف.
[28803]:في الأصل: يسمع. وهو تحريف.
[28804]:الكشاف 3/15.
[28805]:وهو قوله: (هما صفتان).
[28806]:في ب: أنه. وهو تحريف.
[28807]:في الأصل: بما لا يسمع وهو تحريف.
[28808]:وذلك لأن (سمع) إما أن تدخل على مسموع أو غيره: فإن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو سمعت كلام زيد ومقالة خالد. وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها، فقيل: إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي، ويكون الثاني مما يدل على صوت، فلا يقال: سمعت زيدا يركب. ومذهب غيره أن (سمع) يتعدى إلى واحد، والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة فعلى مذهب غير الفارسي يتمشى قول الزمخشري أنه صفة لـ "فتى" وعلى مذهب الفارسي فلا يكون إلا في موضع المفعول الثاني لـ "سمع". انظر البحر المحيط 6/324.
[28809]:التبيان 2/921، وانظر أيضا الكشاف 3/15.
[28810]:هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي، أصله من صيمر، نزل بغداد ولزم الزجاج حتى برع في النحو، ومن مصنفاته الجمل في النحو، والإيضاح، الكافي كلاهما في النحو، شرح كتاب الألف واللام للمازني وغيرها مات سنة 340 هـ. بغية الوعاة 2/77.
[28811]:تقدم.
[28812]:أي أن تسلط القول على المفرد الذي لا يؤدي معنى جملة، ولا هو مقتطع من جملة، ولا هو مصدر لقال، ولا هو صفة لمصدره مسألة اختلف فيها النحويون، فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى جواز نصبه بالقول. نحو قلت زيدا. وذهب جماعة منهم ابن عصفور إلى أنه لا ينصب بالقول بل يحكى، وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم: قال فلان زيدا، ولا قال ضرب، ولا قال ليت، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل. انظر شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 2/462، المقرب (324) شرح الكافية الشافية 2/567، البحر المحيط 6/324. الهمع 2/157.
[28813]:في ب: ما ذكر. أي: أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله، أي: يقال له هذا اللفظ.
[28814]:الكشاف 3/15، تفسير ابن عطية 10/164.
[28815]:البيت من بحر الطويل قاله امرؤ القيس، وهو في ديوانه (110)، المقرب (324) شرح جمل الزجاجي 2/463، اللسان (تجر) البحر المحيط 6/324، الهمع 2/157، الدرر 1/138. المدامة: الخمر القديمة، والمعتقة كذلك. التُّجر: جمع تجار وهو جمع تاجر، أي: جمع الجمع، وقيل: التّجر جمع تاجر كشارف وشرف، وهم التجار بالخمر المعتقة. والشاهد فيه أن قوله (طعم مدامة) مقتطع من جملة أي: طعمه طعم مدامة فليس فيه إلا الحكاية.
[28816]:انظر شرح جمل الزجاجي 2/462-463، المقرب(324)، شرح الكافية الشافية 2/567، البحر المحيط 6/324، الهمع 2/157.
[28817]:في ب: سلط.
[28818]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/396، الكشاف 3/15، البيان 2/163، التبيان 2/921، البحر المحيط 6/324.
[28819]:انظر التبيان 2/921.
[28820]:في الأصل: وحذف. وهو تحريف.
[28821]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/396، الكشاف 3/15، البيان 2/163، التبيان 2/921، البحر المحيط 6/324.
[28822]:في ب: تقرير.
[28823]:من قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} [البقرة: 58]. وذكر هناك: قرئ بالرفع والنصب، فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أمرك طاعة، قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة.... انظر اللباب 1/156.
[28824]:من قوله تعالى: {قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} [الأعراف: 164]. وذكر هناك: قرأ العامة "معذرة" رفعا على خبر ابتداء مضمر أي: موعظتنا معذرة، وقرأ حفص عن عصام، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وطلحة بن مصرف "معذرة" نصبا، وفيها ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها منصوبة على المفعول من أجله، أي: وعظناهم من أجل المعذرة، قال سيبويه: ولو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا انتصب . الثاني: أنها منصوبة على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره: نعتذر معذرة. الثالث: أن ينتصب انتصاب المفعول به، لأن المعذرة تتضمن كلاما، والمفرد المتضمن لكلام إذا وقع بعد القول نصب نصب المفعول به كقلت خطبة وسيبويه يختار الرفع قال: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا ولكنهم قيل لهم لم متعظون فقالوا: موعظتنا معذرة. انظر اللباب 4/114.
[28825]:في الأصل: لهم. وهو تحريف.
[28826]:الكشاف 3/15، والتبيان 2/921.
[28827]:أي: أنّ الأصل في صاحب الحال أن يكون معرفة و "فتى" نكرة، وجاز مجيء الحال من النكرة هنا لتخصصها بالوصف وهو قوله "يذكرهم" عند من أعربها صفة لـ "فتى" وهما الزمخشري وأبو البقاء وانظر التبيان 2/921.