الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

قوله تعالى : { وَاللاَّتِي } : اللاتي : جمع " التي " في المعنى لا في اللفظ ؛ لأنَّ هذه صيغٌ موضوعةٌ للتثنية والجمع ، وليست بتثنية ولا جمع حقيقةً . وقال أبو البقاء : " اللاتي جمع " التي " على غير قياس ، وقيل : هي صيغة موضوعة للجمع " ومثل هذا لا ينبغي أَنْ يَعُدَّه خلافاً . ولها جموعٌ كثيرة : ثلاثَ عشرةَ لفظة ، وهي : اللاتي واللواتي واللائي ، وبلا ياءات فهذه ست ، واللاي بالياء من غيرِ همزٍ ، واللا من غير ياءٍ ولا همزٍ ، واللَّواء بالمد ، واللَّوا بالقصر ، و " الأُلى " كقوله :

فأمَّا الأُلى يَسْكُنَّ غَوْرَ تهامةٍ *** فكلُّ فتاةٍ تترُكُ الحِجْلَ أَفْصَما

إلا أنَّ الكثيرَ أن تكونَ جمْعَ " الذي " . و " اللاءاتِ " مكسوراً مطلقاً أو معرباً إعراب جمع المؤنث السالم كقوله :

أولئك إخواني الذين عَرَفْتُهُمْ *** وأخْدانُك اللاءاتُ زُيِّنَّ بالكَتَمْ

برفعِ " اللاءات " .

وفي محلِّ " اللاتي " قولان ، أحدُهما : أنه رفعٌ بالابتداء ، وفي الخبر حينئذٍ وجهان ، أحدُها : الجملةُ مِنْ قوله : " فاسْتَشْهدوا " ، وجازَ دخولُ الفاءِ زائدةً في الخبرِ وإن لم يَجُزْ زيادتُها في نحو : " زيدٌ فاضرِبْ " على رأي الجمهور ، لأنَّ المبتدأ أَشْبَهَ الشرطَ في كونِه موصولاً عاماً صلتُه فعلٌ مستقبل ، والخبرُ مستحقٌ بالصلةِ .

الوجه الثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، والتقدير : " فيما يُتْلَى عليكم حكُم اللاتي " ، فحُذفَ الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ للدلالة عليهما ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وهذا نظيرُ ما فَعَله سيبويه في نحو : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ }

[ النور : 2 ] و { السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ } [ المائدة : 38 ] أي : فيما يُتْلى عليكم حكمُ الزاينة ، ويكونُ قولُه " فاستشهِدوا " و " فاجْلدوا " دالاً على ذلك الحكم المحذوفِ لأنه بيانٌ له .

والقول الثاني : أنَّ محلَّه نصبٌ ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ لدلالةِ السياقِ عليه لا على جهةِ الاشتغالِ لِما سنذكره ، والتقدير : اقصِدوا اللاتي يأتين ، أو تعمَّدوا . ولا يجوز أن ينتصَبَ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره قولُه " فاستشهدوا " فتكونُ المسألة من باب الاشتغال ، لأنَّ هذا الموصولَ أشبهَ اسمَ الشرطِ كما تقدَّم تقريره ، واسمُ الشرطِ لا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الاشتغالِ لأنه لا يعمل فيه ما قبله ، فلو نصبناه بفعلٍ مقدرٍ لزم أن يعملَ فيه ما قبلَه . هذا ما قاله بعضهم ، ويَقْرُبُ منه ما قاله أبو البقاء فإنه قال : " وإذا كان كذلك أي كونَه في حكم الشرط لم يَحْسُنِ النصبُ ؛ لأنَّ تقديرَ الفعل قبل أداةِ الشرط لا يجوز ، وتقديرُه بعد الصلةِ يحتاج إلى إضمارِ فعلٍ غيرِ قوله " فاستشهدوا " لأنَّ " استشهدوا " لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في " اللاتي " وفي عبارِته مناقشةٌ يطول بذكرها الكتاب .

والثاني : أنه منصوبٌ على الاشتغال/ ، ومَنْعُهم ذلك بأنه يلزُم أَنْ يعملَ فيه ما قَبلَه جوابُه أنَّا نقدِّرُ الفعلَ بعده لا قبله ، وهذا خلافٌ مشهورٌ في أسماءِ الشرط والاستفهام : هل يَجْري فيها الاشتغال أم لا ؟ فمنعَه قومٌ لِما تقدَّم ، وأجازه آخرون مقدِّرين الفعل بعد الشرطِ والاستفهام ، وكونُه منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكي فإنه ذكر ذلك في قوله : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] والآيتان من وادٍ واحد ، ولا بدَّ من إيراد نصَّه ليتَّضحَ لك قولُه ، قال رحمه الله : " واللذانِ يأتيانِها " الاختيارُ عند سيبويه في " اللذان " الرفع ، وإنْ كان معنى الكلامِ الأمرَ ، لأنه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّن معنى الشرط فيه إذ لا يقع على شيءٍ بعينه ، فلمَّا تمكَّن معنى الشرط والإِبهام جرى مَجْرى الشرطِ في كونه لم يَعْمل فيه ما قبله كما لا يعمل في الشرط ما قبله من مضمرٍ أو مظهر " . ثم قال : " والنصبُ جائزٌ على إضمارِ فعل لأنه إنما أشبه الشرطَ ، وليس الشبيهُ بالشيء كالشيءِ في حكمه " . انتهى . وليس لقائل أن يقولَ : مرادُه النصبُ بإضمار فعل النصب لا على الاشتغال ، بل بفعلٍ مدلولٍ عليه ، كما تقدم نَقْلُه عن بعضِهم ، لأنه لم يكن لتعليله بقوله : " لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره " فائدةٌ إذ النصبُ كذلك لا يَحْتاج إلى هذا الاعتذار .

وقوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل من " يِأْتِين " ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : يأتين كائناتٍ من نسائكم . وأما قوله " منكم " ففيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلقَ بقوله : " فاستشهدوا " . والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة ل " أربعة " ، فيكون في محل نصبٍ تقديرُه : فاستشهدوا عليهنَّ أربعة كائنة منكم .

قوله " حتى " ، " حتى " بمعنى إلى ، فالفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " وهي متعلقة بقوله : " فأمسكوهن " غاية له . وقوله : " أو يجعلَ " فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون " أو " عاطفة فيكون الجَعْلُ غاية لإِمساكهن أيضاً ، فينتصبُ " يجعلَ " بالعطف على " يتوفَّاهن " . والثاني : أن تكون " أو " بمعنى " إلا " كالتي في قولهم " لألزَمَنَّك أو تقضيَني حقي " على أحدِ المعنيين ، والفعلُ بعدها منصوبٌ أيضاً بإضمار " أن " كقوله :

فَسِرْ في بلادِ اللهِ والتمسِ الغِنَى *** تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموت فَتُعْذَرا

أي : إلا أَنْ تموتَ . والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غايةً لإِمساكِهِنَّ في البيوت .

قوله : " لهن " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه متعلقٌ ب " يَجْعَلَ " . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من " سبيل " ، إذ هو في الأصلِ صفةُ نكرةِ قُدِّم عليها فَنُصِب حالاً ، هذا إنْ جُعِل الجَعْلُ بمعنى الشرع أو الخلق ، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير فيكون " لَهُنَّ " مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول وهو " سبيل " ، وتقديمُه هنا واجبٌ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديمُ هذا الخبرِ لكونهِ جارَّاً ، والمبتدأُ نكرةٌ لا مسِّوغَ لها غيرُ ذلك .