قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } : هذه الآية مما ينبغي أن يُطَوَّل فيها القول لإِشكالها واضطراب أقوال الناس فيها . ولا بد قبل التعرض للإِعراب من ذكر معنى الكَلالة واشتقاقِها واختلاف الناس فيها ، ثم نعود بعد ذلك لإِعرابها ، لأنه متوقفٌ على ما ذكرنا فنقول وبالله العون : اختُلِفَ في معنى الكَلالة فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنه الميت الذي لا وَلَدَ له ولا والد ، وقيل : الذي لا والدَ له فقط . وقيل : الذي لا ولد له فقط ، وقيل : هو مَنْ لا يَرثُه أب ولا أم ، وعلى هذه الأقوالِ كلِّها فالكَلالةٌ واقعةٌ على الميت . وقيل : الكلالة : الوَرَثَةُ ما عدا الأبوين والولد ، قاله قطرب ، وسُمُّوا بذلك لأنَّ الميت بذهاب طَرَفَيْه تُكَلله الورثة أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويؤيد هذا القولَ بأنّ الآيةَ نزلت في جابر ، ولم يكن له يومَ أُنْزِلَتْ أبٌ ولا ابن . وقل : الكلالة : المال الموروث . وقيل : الكلالة : القرابة ، وقيل : هي الوراثة . فقد تلخص مِمَّا تقدم أنها : إمَّا الميتُ الموروثُ أو الوارثُ أو المال الموروث أو الإِرث أو القرابة .
وأمَّا اشتقاقُها فقيل : هي مشتقة مِنْ تَكَلَّله الشيء أي : أحاط به ، وذلك أنَّه إذا لم يَتْرك ولداً ولا والداً فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي مالُه الموروثُ لِمَنْ يتكلَّله نسبه أي : يحيط به كالإِكليل ، ومنه " الروضة المُكَلَّلة " أي : بالزهر ، وعليه قول الفرزدق :
وَرِثْتُمْ قناةَ المجدِ لا عن كَلالةِ *** عن ابنَيْ منافٍ عبدِ شمس وهاشمِ
وقيل : اشتقاقها من الكَلال وهو الإِعياءُ ، فكأنه يصير الميراث للوارث من بعد إعياء . وقال الزمخشري : " والكلالة في الأصل : مصدرٌ بمعنى الكَلال وهو ذهابُ القوة من الإِعياء . قال الأعشى :
فآليْتُ لا أَرْثي لها مِنْ كَلالةٍ *** ولا مِنْ وَحَىً حتى تُلاقِي مُحَمَّدا
فاستُعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإِضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة " . وأجاز فيها أيضاً أن تكونَ صفةً على وزن فَعالة قال : " كالهَجاجَة والفَقاقَة للأحمق " .
إذا تقرر هذا فَلْنَعُدْ إلى الإِعراب فنقول والعون بالله : يجوز في " كان " وجهان أحدهما : أن تكون ناقصة ، و " رجلٌ " اسمها ، وفي الخبر احتمالان ، أحدهما : أنه " كلالة " إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل إنها الوارث أو غيرَ ذلك فتُقَدِّر حذفَ مضاف أي : ذا كلالة ، و " يُورثُ " حينئذٍ في محلِّ رفعٍ صفةً ل " رجل " وهو فعلٌ مبني للمفعول ، ويتعدَّى في الأصل لاثنين أُقيم الأول مقامَ الفاعل وهو ضمير الرجل ، والثاني محذوف تقديره : يُورَثُ هو مالَه .
وهل هذا الفعلُ من وَرِث الثلاثي أو أورث الرباعي ؟ فيه خلافٌ ، إلا أنَّ الزمخشري لَمَّا جعله من الثلاثي جعَله يتعدَّى إلى الأول من المفعولين ب " مِنْ " فإنه قال : " ويُوْرَثُ مِنْ ورث ، أي : يورث منه " يعني أنه في الأصل يتعدَى ب " مِنْ " ، وقد تُحْذَفُ ، تقول : " وَرِثْتُ زيداً مالَه " أي : مِنْ زيد ، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ " أورث " جَعَل الرجل وارثاً لا موروثاً فإنه قال : " فإنْ قلت : فإنْ جَعَلْت " يورَث " على البناء للمفعول من " أورث " فما وجهُه ؟ قلت : الرجلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ " وقال الشيخ : " إنه من " أورث " الرباعي المبني للمفعول " ولم يقِّيْده بالمعنى الذي قيَّده الزمخشري .
الاحتمال الثاني : أن يكونَ الخبرُ الجملةَ من " يُورَث " ، وفي نصب " كلالة " حينئذ أربعةُ أوجه ، أحدها : أنها حال من الضمير في " يُورَث " إنْ أريد بها الميتُ أو الوارثُ ، إلا أنه يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي : يُورَث ذا كلالة ؛ لأن الكلالة حينئذ ليست نفسَ الضمير المستكنِّ في " يُورث " . قال أبو البقاء على جَعْلِها بمعنى الميت : " ولو قُرِىء " كلالةٌ " بالرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير في " يُورث " لجاز ، غير أني لم أعرف أحداً قرأ به فلا يُقْرَأْنَ إلا بما نُقل " يعني بكونِها صفة أنها صفةٌ ل " رجل " .
الثاني : أنها مفعولٌ من أجله إنْ قيل : إنها بمعنى القرابة أي : يورَثُ لأجل الكلالة . الثالث : أنه مفعول ثان ل " يورث " إنْ قيل إنها بمعنى المال الموروث . الرابعُ : أنها نعتٌ لمصدر محذوف إن قيل : إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثَة كلالة ، وقدَّر مكي في هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ قال : " تقديرُه ذات كلالة " . وأجازَ بعضُهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكونَ حالاً .
والوجه الثاني من وجهي كان : أن تكونَ تامةً فيُكْتَفَى بالمرفوع أي : وإنْ وجد رجل ، و " يُورَثُ " في محلِّ رفع صفةً ل " رجل " و " كلالة " منصوبةٌ على ما تقدَّم من الحال أو المفعولِ من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَب ما قُرِّر من معانيها . وَيَخُصُّ هذا وجهٌ آخرُ ذكره مكي : وهو أن تكون " كلالة " منصوبة على التفسير ، قال مكي : " كان أي : وقع ، و " يورث " نعتٌ للرجل ، و " رجل " رفع ب " كان " ، و " كلالة نَصْبٌ على التفسير ، وقيل : هو نصبٌ على الحال ، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين " وفي جَعْلِها تفسيراً أي تمييزاً نظرٌ لا يَخْفى .
وقرأ الجمهور : " يُورَثُ " مبنياً للمفعول وقد تقدَّم توجيهُه .
وقرأ الحسن : " يُورِثُ " مبنياً للفاعل ، ونُقِل عنه أيضاً وعن أبي رجاء كذلك ، إلاَّ أنَّهما شَدَّدا الراء ، وتوجيهُ القراءتين واضحٌ مِمَّا تقدَّم : وذلك أنه إنْ أُريد بالكلالةِ الميتُ فيكون المفعولان محذوفين ، و " كلالةً " نصب على الحال أي : وإنْ كان رجلٌ يورِث وارثَه أو أهلَه مالَه في حال كونِه كلالةً ، وإنْ أريد بها القرابة فتكونُ منصوبة على المفعول من أجله ، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تقدَّم تقريره ، وإنْ أريدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً ، والأول محذوف أي : يورِث أهله ماله ، وأنْ أريد بها الوارثُ فبالعكسِ أي يورِث مالَه أهلَه .
وقوله : { أَو امْرَأَةٌ } عطفٌ على " رجلٌ " ، وحُذف منها ما أُثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التقديرُ : أو امرأةٌ تورَثُ كلالةً ، وإنْ كان لا يلزمُ من تقييدِ المعطوفِ عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس ، إلا أنه هو الظاهر .
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبر في محلِّ نصب على الحال ، والواوُ الداخلةُ عليها واوُ الحال ، وصاحبُ الحالِ : إمَّا " رجل " إنْ كان " يورَثُ " صفةً له ، وإمَّا الضميرُ المستتر في " يورَث " . ووحَّدَ الضمير في قوله : " وله " ؛ لأنَّ العطفَ ب " أو " وما وَرَدَ على خلاف ذلك أُوِّلَ عند الجمهور ، كقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وإنما أَتَى به مذكراً لأنه يجوزُ إذا تقدَّم متعاطفان ب " أو " مذكرٌ ومؤنثٌ كنت بالخيار : بين أن تراعيَ المتقدِّمَ أو المتأخرَ فتقول : " زيدٌ أو هند قام " ، وإن شئت : " قامت " / ، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه ، أحدها : أنه يعودُ على الرجل وهو مذكر مبدوءٌ به . الثاني : أنه يعود على أحدهما ، ولفظ " أحد " مفرد مذكر . والثالث : أنه يعود على الميت أو الموروثِ لتقدُّم ما يدل عليه " .
والضميرُ في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان ، أحدهما : أنه يعودُ على الأخِ والأخت . والثاني : أنه يعودُ على الرجل وعلى أخيه أو أختِه ، إذا أريد بالرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ } أنه وارثٌ لا موروث ، كما تقدَّمت حكايتُه عن الزمخشري . قال الزمخشري بعد ما حكيناه عنه : فإنْ قلت : فالضميرُ في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } إلى مَنْ يرجِعُ حينئذ ؟ قلت : على الرجل وعلى أخيه أو أخته ، وعلى الأول : إليهما ، فإنْ قلت : إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر للأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمةً في هذا الوجه ؟ قلت : نعم لأَنَّك إذا قلت : السدس له ، أو لواحدٍ من الأخ أو الأخت على التخييرِ فقد سَوَّيْتَ بين الذكر والأنثى " انتهى .
وقرأ أُبي : " أخ أو أخت من الأم " .
وقرأ سعد بن أبي وقاص : " من أم " بغيرِ أداة تعريف . وأجمع الناس على أن المراد بالأخ والأخت من الأم كقراءتهما ، ولأنَّ ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون : للأختِ النصفُ ، وللأختين الثلثان ، وللأخوة الذكور والإِناث للذَّكَر مثلُ حظ الانثيين .
قوله : { فَإِن كَانُواْ } الواوُ ضميرُ الإِخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } ، والمرادُ الذكورُ والإِناث ، وأتى بضمير الذكور في قوله : " كانوا " وقوله " فهم " تغليباً للمذكر على المؤنث ، و " ذلك " إشارةٌ إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإن كان مَنْ يرث زائداً على الواحد ؛ لأنه لا يَصِحُّ أن يقال : " هذا أكثرُ من واحد " إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه .
وقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى } قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثلُه .
قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } " غيرَ " نصبٌ على الحال من الفاعل في " يوصَى " وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } ، هذا إنْ أُريد بالرجلِ الموروثُ ، وإن أريد به الوارث كما تقدم فيعود على الميت الموروث المدلولِ عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام كما دل عليه في قولِه : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي : تَرَكَه الموروث ، فصار التقدير : يوصَى بها الموروث ، هكذا أعربه الناس فجعلوه حالاً : الزمخشري وغيره .
إلا أن الشيخ رَدَّ ذلك بأنه يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وعامِلها بأجنبي منهما ، وذلك أنَّ العاملَ فيها " يوصَى " كما تقرر ، وقوله : { أَوْ دَيْنٍ } أجنبي لأنه معطوف على " وصية " الموصوفة بالعامل في الحال ، قال : " ولو كان على ما قالوه مِن الإِعراب لكانَ التركيب : " مِنْ بعد وصيةٍ يُوصَى بها غيرَ مُضارٍّ أو دينٍ " . وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني بناءَ الفعلِ للفاعل أو المفعول ، وتزيد عليه قراءةُ البناء للمفعول وجهاً آخرَ ، وهو أَن صاحب الحال غيرُ مذكور ، لأنه فاعلٌ في الأصل حُذِفَ وأقيم المفعول مُقامَه ، ألا ترى أنك لو قلت : " تُرْسَلُ الرياح مبشِّراً بها " بكسر الشين ، يعني : " يرسلُ اللهُ الرياحَ مبشِّراً بها " فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مُقامَه ، وجئت بالحال من الفاعل لم يَجُزْ فكذلك هذا " . ثم خَرَّجه على أحد وجهين : إمَّا بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عامًّاً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدين وتقديره : يلزم ذلك مالَه ، أو يُوجبه فيه غيرَ مُضارٍّ بورثته بذلك الإِلزامِ أو الإِيجاب . وإمَّا بفعلٍ مبني للفاعل لدلالةِ المبني للمفعولِ عليه أي : يوصي غير مُضارٍّ ، فيصير نظير قوله : { يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36-37 ] على قراءةِ منْ فتح الباء .
قوله : { وَصِيَّةً } في نصبها أربعة أوجه ؛ أحدُها : أنها مصدر مؤكِّد ، أي يوصيكم الله بذلك وصيةً ، الثاني : أنها مصدر في موضع الحالِ ، والعامل فيها يُوصيكم . قاله ابن عطية ، والثالث : أنها منصوبةٌ على الخروج : إمَّا من قولِه : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } أو من قوله : { فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ } وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين . والرابع : أنها منصوبةٌ باسمِ الفاعل وهو " مُضارّ " ، والمُضارَّةُ لا تقع بالوصية بل بالورثة ، لكنه لمَّا وصّى الله تعالى بالوَرَثة جَعَل المُضارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصية مبالغةً في ذلك ، ويؤيد هذا التخريج قراءةُ الحسن : " غيرَ مُضارِّ وصيةٍ " بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وصارَ نظيرَ قولِهم : " يا سارقَ الليلةِ " التقدير : يا سارقاً في الليلة ، ولكنه أضافَ اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً ، فكذلك هذا ، أصله : غيرَ مضارٍّ في وصيةٍ من الله ، فاتُّسع في هذا إلى أن عُدِّي بنفسه من غيرِ واسطةٍ ، لِما ذكرت لك من قصد المبالغة .
وهذا أحسنُ تخريجاً من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين ، أحدُهما : أنه على حذف " أهل " أو ذي أي : غيرَ مضارِّ أهلِ وصيةٍ أو ذي وصية . والثاني : على حذف وقت أي : وقتَ وصية قال : " وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ، ويقرب من ذلك قولُهم : " هو فارسُ حربٍ " أي : فارس في الحرب ، وتقول : " هو فارسُ زمانه " أي : في زمانه ، كذلك تقديرُ القراءة : غيرَ مضار في وقت الوصية .
ومفعول " مُضارّ " محذوفٌ إذا لم تُجْعَلُ " وصيةً " مفعولةً أي : غيرَ مضارٍّ ورثتِه بوصية .