الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (83)

وقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ } " إذا " شرطيةٌ جوابُها " تَرى " وهو العاملُ فيها ، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان ، أظهرُهما : أنَّ محلِّها الرفعُ نسقاً على خبر " أنَّهم " الثانيةِ ، وهو " لا يستكبرون " أي : ذلك بأنَّ منهم كذا وأنهم غيرُ مستكبرين وأنهم إذا سمعوا ، فالواو عَطَفَتْ مفرداً على مثله . والثاني : أنَّ الجملةَ استئنافية أي : أنه تعالى أَخْبر عنهم بذلك . والضميرُ في " سمعوا " ظاهرُه أَنْ يعودَ على النصارى المتقدِّمين لعمومِهم ، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهم وهم مَنْ جاء مِن الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : " لأنَّ كلَّ النصارى ليسوا كذلك " .

و " ما " في " ما أُنْزل " تحتمل الموصولةَ والنكرةَ الموصوفةَ ، و " ترى " بصَريةٌ ، فيكون قولُه " تَفيض من الدمع " جملةً في محلِّ نصب على الحال . وقُرئ شاذاً " تُرى " بالبناء للمفعول ، " أعينُهم " / رفعاً ، وأسند الفيضَ إلى الأعينِ مبالغةً ، وإن كان القائضُ إنما هو دمعُها لا هي ، كقول امرئ القيس :

ففاضَتْ دموعُ العينِ مني صَبابةً *** على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمِلي

والمرادُ المبالغةُ في وصفِهم بالبكاءِ ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهم تمتلئ حتى تفيضَ ، لأنَّ الفيضَ ناشىءٌ عن الامتلاءِ كقوله :

قوارِصُ تأتيني وتَحْتَقِرُونها *** وقد يَمْلأَ الماءُ الإِناءَ فَيَفْعُمُ

وإلى هذين المعنيين نحا أبو القاسم ، فإنه قال : " فإنْ قلت : " ما معنى " تَفيض من الدمع " ؟ قلت : معناه تَمْتَلِئ من الدمع حتى تفيض ، لأنَّ الفيض أَنْ يمتلئَ الإِناءُ حتى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء ، وهو من إقامةِ المسبب مُقام السببِ ، أو قَصَدْتَ المبالغةَ في وصفِهم بالبكاء ، فجَعَلْتَ أعينهم كأنها تفيض بأنفسها ، أي : تسيل من الدمع من أجلِ البكاء من قولك : " دَمَعَتْ عينُه دمعاً " .

و " من الدمع " فيه أربعةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلِّقٌ ب " تَفيض " ، ويكون معنى " مِنْ " ابتداءَ الغاية ، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعلِ في " تفيضُ " قالهما أبو البقاء ، وقَدَّر الحالَ بقولك : " مملوءةً من الدمع " وفيه نظر ، لأنه كونٌ مقيدٌ ، ولا يجوزُ ذلك ، فبقي ان يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً أي : تفيض كائنً من الدمع ، وليس المعنى على ذلك ، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي . فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكونَ " من الدمع " تمييزاً ، لأنهم لا يَشْترطون تنكيرَ التمييز ، والأصل : تفيض دمعاً ، كقولك : " تَفَقَّأ زيدٌ شحماً " فهو من المتصبِ عن تمام الكلام ؟ فالجوابُ أن ذلك لا يجوزُ ، لأنَّ التمييز إذا كان منقولاً من الفاعلية امتنع دخولُ " مِنْ " عليه ، وإن كانت مقدرةً معه ، فلا يجوز : " تَفَقَّأ زيدٌ من شحم " وهذا - كما رأيتَ - مجرورٌ ب " من " فامتنع أن يكونَ تمييزاً ، إلا أن ابا القاسم في سورة براءة جعله تمييزاً في قوله تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ }

[ التوبة : 92 ] ، ولا بد من نقلِ نصه لتعرفه ، قال رحمه الله تعالى : " تفيضُ من الدمعِ كقولك : " تفيضُ دمعاً " وهو أبلغ من قولِك : يفيضُ دمعُها ، لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائض ، و " من " للبيان ، كقولك : " أَفْديك من رجلٍ " ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز " وفيه ما قد عَرَفْتَه من المانِعَيْنِ ، وهو كونُه معرفةً ، وكونُه جُرَّ ب " مِنْ " وهو فاعلٌ في الأصل ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ ، فعلى هذا تكونُ هذه الآيةُ كتلك عنده ، وهو الوجهُ الثالث . الرابع : انَّ " مِنْ " بمعنى الباء ، أي : تفيضُ بالدمع ، وكونُها بمعنى الباءِ رأيٌ ضعيف ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] أي : بطرف ، كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى مِنْ ، كقوله :> شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ *** متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

أي : من ماءِ الجر .

قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } " مِنْ " الأولى لابتداءِ الغاية وهي متعلقةٌ ب " تَفِيضُ " والثانيةُ يُحْتمل أن تكونَ لبيانِ الجنس ، أي : بَيَّنت جنسَ الموصولِ قبلَها ، ويُحتمل أن تكونَ للتبعيضِ ، وقد أوضح أبو القاسم هذا غايةَ الإِيضاح ، قال رحمه الله : " فإنْ قلت : أيُّ فرقٍ بينَ " مِنْ " و " مِنَ " في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } ؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية ، على أنَّ الدمع ابتدأ ونَشَأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وبسببِه ، والثانيةُ لبيان الموصول الذي هو " ما عرفوا " وتحتمل معنى التبعيض ، على أنهم عَرَفوا بعضَ الحقِّ فأبكاهم وبَلَغَ منهم ، فكيف إذا عَرَفوه كلَّه وقرؤوا القرآن وأحاطُوا بالسنة " انتهى . ولم يتعرض لما يتعلَّق به الجارَّان وهو يمكن أَنْ يُؤْخَذَ من قوةِ كلامه ، وَلْنزد ذلك إيضاحاً و " مِنْ " الأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حال من " الدمع " أي : في حالِ كونه ناشئاً ومبتدئاً من معرفةِ الحق ، وهو معنى قول الزمخشري ، على أنَ الدمعَ ابتدأ ونشَأَ من معرفة الحق ، ولا يجوزُ أَنْ يتعلق ب " تفيض " لئلا يلزَم تعلُّقُ حرفين مُتَّحِدَيْن ، لفظاً ومعنىً بعامل واحد ، فإنَّ " مِنْ " في " من الدمع " لابتداءِ الغاية كما تقدَّم ، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ " مِنْ " في " من الدمع " للبيانِ ، أو بمعنى الباء فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضوحِ كالأول .

وأمَّا " من الحق " فعلى جَعْلِه أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف أي : أعني من كذا ، وعلى جَعْلِه أنها للتبعيض تتعلق ب " عَرَفوا " وهو معنى قولِه : " عَرَفوا بعض الحق " .

وقال أبو البقاء في " مِن الحق " إنه حالٌ من العائد المحذوف " على الموصول ، أي : مِمَّا عرفوه كائناً من الحق ، ويجوزُ أن تكون " من " في قوله تعالى : { مِمَّا عَرَفُواْ } تعليلةً ، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانهم الحقَّ ، ويؤيِّدُه قول الزمخشري : " وكان مِنْ أجله وبسببه " فقد تحصل في " مِنْ " الأولى أربعةُ أوجه ، وفي الثالثةِ ضَعْفٌ أو منعٌ كما تقدم ، وفي " مِنْ " الثانية أربعةٌ أيضاً : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل " من " ابتدائية أو تعليليةٌ ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلق به : هل هو " تفيض " أو محذوفٌ على أنها حالٌ من الدمع ، وفي الثالثة خمسة ، اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ ؟ وثلاثةُ بالنسبة إلى متعلِّقها : هل هو محذوفٌ وهو " أعني " أو نفسُ " عَرَفوا " أو هو حالٌ ، فتتعلق بمحذوفٍ أيضاً كما ذكره أبو البقاء .

قوله : { يَقُولُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مستأنف فلا محل له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ ، الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في " أعينهم " ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنَّ المضافَ جزؤهُ فهو كقولِه تعالى :

{ مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] . الثالث : أنه حالٌ من فاعل " عَرَفوا " والعاملُ فيها " عرفوا " قال الشيخ لَمَّا حكى كونَه حالاً : " كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ولا العاملَ فيها " قلت : أمَّا أبو البقاء فقد بَيَّنَ ذا الحال فقال : " يقولون " حالٌ من ضميرِ الفاعل في " عَرَفوا " فقد صَرَّح به ، ومتى عُرِف ذو الحال عُرِف العاملُ فيها ، لأنَّ العاملَ في الحال من العامل في صاحبها ، فالظاهر أنه أطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك ، ثم إنَّ الشيخَ رَدَّ كونَها حالاً من الضمير في " أعينهم " بما معناه أن الحَال لا تَجيءُ من المضافِ إليه وإن كان المضافُ جُزْأَه ، وجعله خطأً ، وأحالَ بيانَه على بعضِ مصنفاتِه ، ورَدَّ كونَها حالاً أيضاً من فاعل " عرفوا " بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتِهم الحقَّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحالِ وفي غيرها ، قال : " فالأَوْلى أن يكون مستأنفاً " أمَّا ما جعله خطأً فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوع غير هذا ، وأمَّا قوله " يلزم التقييدُ " فالجوابُ أنه إنما ذُكِرت هذه الحالُ لأنها أشرفُ أحوالهم فَخَرَجَتْ مخرجَ المدح لهم . وقوله : " ربَّنا آمنَّا " في محل نصب بالقول ، وكذلك : { فَاكْتُبْنَا } إلى قوله : { الصالحين } .